إثر قيام «ثورة الخامس والعشرين من يناير» في مصر، شاركت المخرجة المصرية الشابّة آيتن أمين في تحقيق فيلم وثائقي منبثق من واقع الحال، المتمثّل بحراك شعبيّ عفوي أفضى، بعد ثمانية عشر يوماً، إلى تنحّي الرئيس حسني مبارك. التقت أمين المخرجين تامر عزّت وعمرو سلامة (عملت مع الأخير «مساعدة مخرج» أثناء تحقيقه فيلمه الروائي الطويل الأول «زيّ النهارده» في العام 2008)، فأنجزوا معاً «تحرير 2011: الطيّب، الشرس والسياسي»، الذي التقط ملامح الواقع الراهن، وتفاصيل العيش في ظلّ النظام القامع. اختارت آيتن أمين الجزء الثاني «الشرس». أرادت الاقتراب قدر المستطاع من شخصية رجل الشرطة، أثناء مواجهته أناساً أرادوا التغيير سلمياً، فخاضت تجربة إنسانية مرتبطة بسؤال: كيف يُمكن فهم آلية العمل الأمني، بحسب نظرة رجل الشرطة نفسه؟ قبل هذا، اشتغلت آيتن أمين في شؤون سينمائية متفرّقة، إثر تخرّجها في «الجامعة الأميركية في القاهرة» بإنجازها فيلماً روائياً قصيراً بعنوان «راجلها» في العام 2007. درست التجارة سابقاً. لم تُنجز أفلاماً وثائقية قبل «الشرس» (عن رجال الأمن والشرطة). في زيارتها بيروت قبل أسابيع قليلة، رفقة فيلمها المشارك في المسابقة الرسمية للدورة العاشرة (15 20 كانون الأول 2011) ل«مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية»، حيث فاز بجائزة أفضل فيلم طويل، أجريتُ معها الحوار التالي: أودّ أن أبدأ من سؤال شخصي بحت: أين كنت يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني 2011؟ ^ لم أشأ النزول إلى الشارع صباح ذاك اليوم. شعرتُ أن ما سيحصل مجرّد تظاهرة كمثيلات لها حدثت سابقاً، لم أشارك فيها أيضاً. لكن، بعد الظهر، بدأت أمور عدّة تتبدّل. قرّرت التوجّه وحدي إلى ميدان التحرير، سيراً على القدمين. لم يوقفني رجال الأمن. بعد الظهر، تبدّلت الأمور فعلاً. بدأت مرحلة جديدة. بداية، تخيّلتُ أنها مجرّد تظاهرة بألفي شخص لا أكثر. تظاهرة عابرة. صديق لي لم يُشارك هو أيضاً في تظاهرات سابقة، قرّر النزول إلى الشارع هذه المرّة. طلب منّي المُشاركة. صديقي المخرج عمرو سلامة كان حاضراً أيضاً. كان من أوائل الذين تعرّضوا للضرب على أيدي رجال الأمن والشرطة. فور معرفتي بهذا كلّه، اتّخذت قرار المشاركة. الكاميرا لاحقاً هل حملت الكاميرا معك حينها؟ ^ كلا. وجدتُ في الحدث الآنيّ ما هو أقوى من تصويره. شعرتُ أن تصوير الحدث أثناء وقوعه يصنع مسافة بيني وبينه. مرّ وقتٌ قبل لجوئي إلى الكاميرا. قبل مشاركتي في الحراك الشعبي بالصورة. ألمّ بي شعور بأن الكاميرا تجعلني أحسّ بالابتعاد عما يجري. أردتُ أن أكون داخل ما يجري. لم أشأ أن أصوِّر. مخرجون عديدون أعرفهم لم يُصوِّروا أثناء الحدث. الذين صَوَّروا هم أناس عاديون بواسطة أجهزة الهواتف الخلوية الخاصّة بهم. إذاً، متى حضرت الكاميرا؟ كيف تمّ العمل على «تحرير 2011» بعناوينه الثلاثة؟ ^ بعد مرور ثمانية عشر يوماً على بداية الثورة، أي يوم تنحّى حسني مبارك، التقيت عمرو سلامة، الذي أخبرني برغبته في إنجاز فيلم وثائقي. كان هناك المخرج أحمد عبد الله والمنتج محمد حفظي أيضاً. ارتكز حوارنا على مسألة واحدة: توثيق الحدث الآن. تردّدتُ، لشعوري أن الأحداث تتغيّر يومياً. في النهاية، اقتنعت بضرورة التصوير. هناك أحداث أخرى ستقع. الإحساس بالحدث الآن لن يكون موجوداً لاحقاً. لن يكون هو نفسه. هذا سليم جداً. بدأت التصوير (في آذار ونيسان 2011). تامر عزّت وعمرو سلامة أيضاً. الموضوع اختلف لاحقاً، فعلاً. لو صوّرتُ الضبّاط الآن، لما وافقوا. يومها، أرادوا الدفاع عن أنفسهم. اليوم مثلاً لن يوافقوا على التصوير. وإذا وافقوا، فلن يقولوا ما قالوه سابقاً. هل اخترتِ أنت موضوع «الشرس»؟ لماذا؟ ^ منذ البداية، اخترت «الشرس». لا علاقة لي بالضبّاط ورجال الشرطة أبداً. لا قبل 25 كانون الثاني، ولا في الأيام الثمانية عشر. لم أتعامل معهم أبداً. ببساطة شديدة، أقول لك ما جرى: في 25 كانون الثاني ليلاً، عندما هوجمنا، كنت واثقة من دون معرفة من أين جاءتني الثقة هذه بأن رجال الشرطة لن يضربونا. بأنهم سيخيفوننا فقط (ما حدث كان نقيض الثقة تلك). أتذكّر جيداً أني أثناء الركض هرباً منهم، شاهدتُ عسكريّاً ينهال بالضرب المبرح على صبي. المنظر مُذهل لشدّة سلبيته، بالنسبة إليّ: صبيّ لا يحمل شيئاً معه، يُضرَبُ هكذا. لم أفهم سيكولوجية شخص يضرب أحداً آخر بهذه الطريقة. لماذا؟ لغاية الآن، أتذكّر المنظر. أعتقد أني بسببه اخترت «الشرس». أردتُ أن أطرح أسئلة لا أستطيع طرحها في جزء آخر. رحلة كيف تعاملت مع رجال الأمن والشرطة إذاً، وهم حينها منحازون ضد الناس؟ ^ لم يكن سهلاً عليّ إقناع رجل أمن أو شرطيّ بالكلام. كل واحد من هؤلاء الضباط الخمسة عشر الذين التقيتهم احتاج إلى لقاء تراوحت مدّته بين أربع وخمس ساعات. أردتُ الاستماع إلى وجهة نظر كل واحد منهم. في البداية، راحوا يُردّدون كلاماً رسمياً يعرفه الجميع لكثرة تكراره على شاشات التلفزيون. صوّرت هذا كلّه من أجل عشر دقائق فقط. الساعة الأولى لا نفع لها. «أي كلام». هيثم دبّور، باحث شاب عمل معي أثناء تحضير الفيلم وتصويره، نصحني بضرورة عدم التحدّث معهم ب«عقلية ثائر»، بل بمنطقهم هم. هذا مفيد جداً. المواجهة تجعلهم يقولون أجوبة منافقة. الكلام معهم بشكل عادي، من دون أحكام مسبقة، أطلق ألسنتهم، وجعلهم يقولون كلاماً مفيداً. مع هذا، أقول لك إن حواراتي مع الضباط جميعهم أسهل من عملية التوليف. في غرفة المونتاج، طال الأمر. أولاً، هناك سبب فني: كيفية إخراج فيلم من حوارات فقط. أكثر من ذلك: عندما تُنجز فيلماً وثائقياً مع أناس آخرين أو عنهم، تدخل حياتهم مثلاً. تتعرّف إليهم أكثر. مع الضبّاط، لا يُمكن اتباع الأمر نفسه. الضابط حاضرٌ أمامك لفترة محدّدة. إما أن توافق، أو لا. لا وقت لديه. مسألة أخرى: يسرد الضبّاط الوقائع سردا تاريخيا. ما حصل هذا اليوم أو ذاك: اقتحامات. صدامات. تفاصيل. إلخ. لم أشأ فيلماً شخصياً، بل انعكاساً لتجربتي في الكلام معهم. في الاقتراب منهم. بعد هذا، أدعو الناس المشاهدين إلى الحكم على أقوالهم: هل يُصدّقون ما سمعوه، أم لا. هناك أشياء عدّة لم أصدّقها، ومع هذا تركتها في الفيلم. قلتُ رأيي. لم أفرض شيئاً على الناس. ببساطة، الأمر متعلّق بالناس هؤلاء: هل صدّقوا رجل الأمن، أم لا. هل رجل الأمن صادق، أم لا. أردتُ إيجاد مساحة. أخلاقياً، الموضوع ملتبس. متّفقون جميعنا على أن رجال الشرطة مُدانون بسبب ممارساتهم في أحداث الثورة. وفي ما يحدث لغاية الآن أيضاً. لم أهتمّ بمسألة إدانتهم أو عدم إدانتهم. حاولت أن أجمع ما يُقرّبني منهم. التعامل معهم على مستوى إنساني طريقةٌ لبلوغهم. هم صدّقوا فعلاً واقتنعوا تماماً بأن ما فعلوه كان «حماية للبلد». صدّقوا واقتنعوا بأننا «نحن الفوضى». هذا ما أردتُ كشفه. لا علاقة للأمر بالتشكّك. رجال شرطة وأمن كثيرون «جيّدون» إنسانياً، لكنهم اعتادوا التعامل بتشكّك وتعالٍ مع الناس. هذا ما شعرتُ به. الفكرة أصلاً كانت رحلة اكتشاف. أردتُ أن يكون الناس معي أثناءها.