قد تبدو للوهلة الأولي صِناعة فيلم عما يحدث في التحرير أمراً مفروغاً مِن محتواه الآن، فالكثير مِن المواقع والقنوات الفضائية بل وصناع الأفلام استطاعوا أن يمشطوا بآلاتهم - وهي هنا الكاميرا - كل ركن في الميدان، بل يأتون بما يحدث إلينا أولاً بأول، مِمَا يجعل المشاهد مشبعة تماماً مِن التحرير، بل ويشعر في بعض الأحيان بال«تخمة» مِنه ! . إلا أن فيلم «التحرير 2011 - الطيب والشرس والسياسي»، والذي هو عِبارة عن ثلاثة أفلام قصيرة، يخرج مِن مأزق تكرار المشاهدة، خاصةً إذا علمت أن مخرجيه الثلاثة «تامر عزت» بفيلمه «الطيب»، و«آيتن أمين» بفيلمها «الشرس»، و«عمرو سلامة» بفيلمه «السياسي» يتصدرون المشهد بالتحرير، خاصة «عمرو سلامة» بسبب مواقفه الداعمة لثورة 25 يناير في بدايتها. بجانب تدعيم الفيلم مِن قِبل منتج مثل «محمد حفظي»، بمشاركة مهرجان «أبو ظبي» السينمائي، فيبدو المشروع مكتملاً، وأصبحت الفكرة للوهلة الأولي ليست أمراً مفروغاً مِن محتواه - كما ذكرنا - بل هي أكثر تميزاً، إلا أن النتيجة النهائية بعد المشاهدة تأتي مُرضية في مناطق وغير مرضية في مناطق أخري. يأتي فيلم «الطيب» في بداية العرض، حيث الميدان، نُتابع فيه كُل شئ، مِن خلال وجهات نظر مختلفة، لشخصيات تعمد مخرجه «تامر عزت» تهميش أسمائها، لنجد فتاة تلف الميدان، شاب يعود من مِنحة للتصوير الفوتوغرافي بالخارج لتصوير الميدان، طبيبة في مستشفي الميدان، بجانب شخصيات أخري تظهر في ومضات سريعة، تنير لك منطقة ما بتعليق أو حتي ب«إيفيه»!. لهذا تأتي التجربة في البداية ممتعة بصرياً، خاصةً لمن عاشوا داخل الأحداث، حيث إعادة التذكر «النوستالجيا» بشكل من الأشكال، رغم أن الأحداث هنا قريبة، لكنها تبدو أبعد، خاصةً بعدما حدث مؤخراً في الميدان. يقف المُصور الشاب، يشرح بكلماتٍ بسيطة كيف قام بالتقاط صورة هنا وصورة هناك، ومع أن التعليقات تبدو هُنا عفوية، إلا أنها تُثير الضحك، فيكفي أن تسمع طبيبة الميدان وهي تُخبرك بأن قسم الأمراض النفسية امتلأ عن آخره بسبب خطابات «مُبارك» قبل تنحيه!.. قد يبدو التعليق عادياً، لكنه يُثير الضحك، ربما لأن الأحداث مرت أو رُبما لأن المُستقبل غامض لا أحد يعلم عنه شيئاً. هنا الكاميرا تخلق الإيقاع الحيوي، تتجول في الميدان، تلتقط ما يحدث في أطرافه وبداخله، إلا أن المُدة الزمنية لا تُسعف الفيلم في ذكر كافة التفاصيل، لهذا يأتي الفيلم أشبه بالتوثيق البسيط لما حدث، واقعي بأبطاله الحقيقيين، وهذا أجمل ما فيه. تأتي تجربة «الشرس» هي الأكثر جرأة مِن بين الثلاثة أفلام ل«آيتن أمين»، تطالعك في البداية لقطات لعددٍ مِن ضباط الشرطة، تحاول مخرجته التحدث معهم، الجميع يرفض بطرق مختلفة، هناك من يرفض بشكل قاطع، هناك من يرفض بشكل متسائل: «عاوزة تكلميني في إيه ؟»، وهناك من يهرب بعيداً عن الكاميرا لأنه لا يريد منها أن تفضحه. تتلخص الخيوط في ثلاث شخصيات، الأول ضابط أمن دولة مستمر في الخِدمة، الآخر أمين شرطة يخفي ملامحه، أما الثالث فهو ضابط أمن دولة ترك الخدمة بعد أربعة أشهر فقط!.. تحاورهم المخرجة بأسئلة بسيطة جداً، هناك من يتعنت ويدافع بأقوال: «إحنا بنأدي شغلنا.. إزاي أضرب الناس بالرصاص وأنا مِش مُسلح ؟!»، محاولات لتبرئة الساحة، في حين يرد ضابط أمن الدولة الذي ترك الخدمة بما يعارض ما سبق: «الشرطة بتتسلح بأسلحة كثيرة خصوصاً أمن الدولة.. آه طبعاً فيه قناصة»، في الوقت نفسه يدور حديث داخلي للمخرجة، تضع الكثير مِن علامات الاستفهام علي الصفحة البيضاء، تنهي فيلمها بسؤال لأمين الشرطة عن سبب عادة الصفع علي أوجه المواطنين البسطاء، يتهته الأمين، لا يجد ما يقول سوي: «مش عارف»! جرأة الفيلم تنبع مِن كونه أسئلة تدور في أذهاننا جميعاً عن الشرطة ودورها في الثورة، إلا أن الأسلوب النسوي هو الغالب علي الفيلم، تشعر به أكثر في أحاديث المخرجة الداخلية، مِمَا جعله فيلماً خاصاً أكثر. أما فيلم «الشرس» فهو الأقرب لروح السخرية، حيث وضع مُخرجه «عمرو سلامة» 10 شروط لكي يُصبح أي رئيس دولة ديكتاتوراً، مدعومة بشهادات الكثير مِن السياسيين مثل «د. محمد البرادعي»، «د. مصطفي الفقي»، «د. حسام بدراوي»، وفي إطار السخرية تأتي إجابات هولاء السياسيين عن «مُبارك»، تبدأ دائماً - بدون أن تُطرح - ب«كيف ؟». «د. مصطفي الفقي» يؤكد أن الفترة الأولي لحُكمه هي الأفضل، خاصةً حينما أتي «مبارك» مع جملته الشهيرة «الكفن مالوش جيوب»، يؤكدها بإضافة أنه أتي وهو في حاجة لكل يدٍ لتساعده لأنه لا يفهم في كل شئ في أمور الدولة علي حد قوله. إلا أن الجزء الأخير و رغم شهادات الكثيرين هو الأضعف، ربما لأن جرعة السخرية تم تناولها مِن قبل، ربما لأن الشهادات مجروحة، خاصةً ممن يحسبون علي النظام القديم، لدرجة أنه بعد العرض سأل أحد المُشاهدين «عمرو سلامة»: كيف يصدق شهادات هؤلاء وهم محسوبون علي النظام ؟، فما كان مِن «عمرو سلامة» سوي أن يرد بأنه كان يرغب بالفعل في أن يتحدث هؤلاء عن فترة قربهم مِن «مبارك» بشكل مختلف، إلا أنه صدِمَ مِن تبرئة ساحة هؤلاء لأنفسهم داخل الفيلم، بل أنه أضاف بأن «د. مصطفي الفقي» ذكر في فيلمه العديد مِن أحاديث النميمة - علي حد قوله - مِمَا جعل «عمرو سلامة» يحذفها مِن فيلمه. إلا أن ما يُميز هذا الجزء هو محاولته طرح سؤال ليُجيب عليه في 10 نقاط، مُستعرضاً التاريخ القديم والحديث، وهي خطوة أياً كانت تُحسب له. كما يحسب علي الفيلم أن القاعة امتلأت عن آخرها بالمُشاهدين مِن مختلف الأعمار والأفكار ليشاهدوا فيلماً توثيقيا عن الثورة بثلاثة أساليب مُختلفة، وهو ما يعيد إلي الأذهان ضجة فيلم «مايكل مور» المعروف باسم «فهرنهايت 11 - 9»، والذي حقق إقبالاً كبيراً، رغم أنه تسجيلي!