يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور "أنَّ الحياةَ لا تُفهمُ إلا من خلال القصص التي تروى عنها" لعلَّ الرهانَّ على مادة القصة يتحول إلي عملية مصيرية بالنسبة لمن تُحيقُ بهويته وتاريخه المخاطر على مستويات متباينة، كما تَصعُبُ حماية الذاكرة خارج الحكاية، لذا أن الحاجة إلى الحكاية وسردها أزليةُ على حد قول الكاتب البوسني إيفو أندريتش. طبعاً يأتي إدراك صاحب "جسر على نهر درينا" لأهمية السرد وضرورته بعدما راقب واستقرأَ من واقعه صراعات مُتعاقبة بين أجناس وقوميات مُتعددة في حقب تاريخية مُختلفة، كلما نذرت التطوراتُ بتحولات ومخاضات كبيرة تزدادُ مخاوفُ الشعوبُ والقوميات التي تعيشُ على التخوم والقلقُ يكون آخذاً في التصاعد من تحول مناطقها إلى ساحة الحرب، ومن المؤكد أن هذه المواقع تُصبح ورقةً للمساومة بين أطراف الصراع، هذا الخوف من إنصهار داخل الكيانات والجماعات الإثنية الأخرى يتعاظم أكثر خلال لحظات تاريخية فارقة، وينعكسُ طيفُ هذا التوتر في أعمال أدبية بصورة دقيقة، هنا يمكن الإستشهاد بأغوتا كريستوف في ثُلاثيتها أيضا بما يعرضهُ الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه في رواية "الجسر" مثالاً على هاجس تهشيم مكونات الهوية، الأمر الذي تلمسهُ بوضوح في رواية "عشبة ضارة في الفردوس" من إصدرات دار ميارة ومسكيلياني للنشر والتوزيع تونس 2017 للكاتب السوري هيثم حسين الذي لا يعينُ المكان الذي تنطلق منه أحداث روايتهُ وذلك إيحاءُ بأنَّ ما يجري في هذه البقعة قد يتكرر في أي مكان آخر إذا ما عاشت فيه مجموعةُ تكون هويتها رهناً لإرغامات الجغرافيا والتاريخ. كما يُفهمُ وجه آخر من التعتيم على اسم المكان وهو ضبابية المصير بالنسبة لمن يظلله هذا المكان، من هنا يلتقي مؤلفُ "رهائن الخطيئة" مع أغوتا كريستوف وهي بدورها أيضاً تستخدم مفردة "البلدة" في رواياتها عوضاً عن إسم مُحدد، ينتقي الكاتب ُ شخصية هامشية في البلدة وهي ابنة الرجل الأعمي (موروي) مفوضاً إياها بسرد وقائع بلدتها، إذ تتدخل الساردُة في مُستهل بعض الفصول مؤكدة على ما تضيفهُ إلى مضمون القصة التي تُبنى أجزاءُ من حلقاتها على مادونه (المساعد أول) في أوراقه، بجانب ذلك فإن النكات التي تُطلَقُ وتتداول بين الجميع وهي غالباً ما تكون وليدة مناسبة معينة وأمثال شعبية ترفدُ عنصر السخرية في الرواية، كأن المؤلف يؤمن بما قاله ميلان كونديرا "بأنَّ السخرية آخر ملجأ للكائن البشري". حكايات البلدة تفتحُ الرواية بالمونولوج حيثُ تستعيدُ الشخصية غير الفاعلة ما اختزنت في ذاكرتها مما مرَّ على بلدتها، وهي على وشك مفارقة الحياة، والفردوس هنا هو البلدة الواقعة تحت قبضة (المساعد أول) الذي يخطط لإعادة بناء المكان وفقاً لما يخدمُ مشروعه السياسي الذي يتمثلُ في التجنيس القسري وطمس الهوية من خلال إستدراج أهالي البلدة إلى إقلاع عن إستخدام اللغة الكردية وتداول لغة بديلة. أكثر من ذلك بعدما تستبب له الأمورُ يشنُ (المساعد أول) حملة لاهوادة فيها ضد من استهان به، كما قضى على بعض أصوات معارضة، ويذهبُ عدد من المواطنين ضحيةً لشراسة المسؤول وكان كل من المزرباني والعجوز نازه في مُقدمةِ ضحاياه، ضف إلى هذا فإنَّ يد المساعد أول تطالُ خارج حدود البلدة لتصفية أحد المشايخ الصوفية على الجانب التركي. يتصرفُ المسؤول الموتور على هذا المنوال مطوعاً شتى الوسائل لبناء سلطة أخطبوطية، إذ يسعى إلى توسيع شبكة جواسيسه ولا يستثني من ذلك الرجل الأعمى الذي ترافقه ابنته في مجالس الرجال. هنا ما يجبُ التوقف عنده أنَّ المؤلف حالفه النجاح في نحت شخصية الراوية التي يزعمُ أهل البلدة بأنها خرساء بينما الأخيرة بفضل موقعها تكتشفُ أسرار البيوت وحكايات نسائها، ومما لا يجعل هذا الأمر نتوءاً بالنسبة للمتلقي، أن النساء يقبلنَّ على الأم التي تعيد الجمال الأنثوي إلى أجسادهنَّ، مصاحبة الراوية لبهو في زيارتها لبيت برازق زوجة المساعد تعطيها الفرصة لقراءة ما دونهُ المسؤول في أوراقه المغلفة باللون الأسود وضع لها عنواناً "درر المساعد أول الفكرية والسياسية والأمنية" تنطوي هذه الأوراق المضمومة في أربعة مجلدات على ملاحظات كتبها المسؤول عن أهل البلدة، والأحزاب والإنتماءات، وتكوين الشخصيات، ويتضحُ الهدف من وراء ذلك وهو الإمساك بزمام الأمور، وتعميق الفجوة بين المواطنين، إذ يفتش في أضابير تاريخ القومية الكردية، بحثاً عن الحكايات التي تُلَّهبُ القلوب وتشعل العداوات بين المنحدرين من عرق واحد، فإن قصة رسيلو وبعبدكي هي ما يريدُ (المساعد أول) أن يتخذها نموذجاً لإعادة إحيائه وذلك ما يضمن له تثبيت مدماك سلطته أكثر، فخلاف بسيط بين الإثنين قد تطور إلى درجة قد تنافس الشخصان على نقل تقاريرهما الشفوية إلى النسناس، وبهذا يتأسس جهاز مخباراتي متغلغل في مفاصل المجتمع. تشريح الشخصيات لا تخلو الرواية من محاولات لإبانة عن طبائع الشخصية الكردية، كون الإنسان الكردي عنيداً ولا ينتبه إلى حبائل اللعبة السياسية فإنَّ فوهة بندقيته في لعبة الأمم لا تخدم كيانه القومي بقدر ما يستفيدُ أطراف الصراع من التلويح بقضية الشعب الكردي نكاية ببعضهم البعض، يمررُ مؤلفُ "إبرة الرعب" هذه التصورات عبر مدونة (المساعد أول) الذي بدوره يعاني من إهتزاز رجولته في بيت الوردة ويشعرُ بعجزه مخذولاً، آنذاك تشفق عليه المومسُ التي سمي منزلها ببيت الشعب، ويستغربُ الأهالي من تجشم زوجها عناء التجسس بينما أنَّ الأخبار كلَّها متناثرةُ في بيته، فضلاً عن ذلك أن كتبة التقارير لا يتحاشون عن ذكر مما تلوكه الألسنة حول شذوذ رئيس الفرع وأنَّ كل ما يحيطُ به من مظاهر القوة والتسلط ليس إلا وسيلة لتستر على ما يمارسه مع العبد الأسود. هكذا تطوف بك الراوية بين طبقات المجتمع، حيث تتراص قصة بريندار الذي يتحالف مع المساعد أول للمتجارة بالبضائع بين تركيا وسوريا ولا يسترضي لنفسه دور الجاسوس بجانب قصة توفيقو الذي يطلقُ عنان موهبته في صياغة النكت ولا يصغي إلى التحذيرات إلى أن يفقد توازنه النفسي في السجن، ويبلغ به السيل الزبي عندما يرى تحول إحدى المدارس إلى ثكنة عسكرية إذ ذاك يبصق على الحيطان والشعارات ولا يكون الرد عليه إلا برصاصات، فيما أشرنا إليه سابقاً أن المؤلفَ لا يتقاعس عن نقد الشخصية الكردية التي تحملُ في طواياها قدراً كبيراً من التناقضات، فخربو هو صورة ممسوخة للإنسان الكردي الذي تَتمثل مهمتهُ في تفتيت بنيان البلدة وتجريد السكان من الجنسية، كذلك ابن خربو وجه آخر من الإقطاعية المستغلة، فهو يجري وراء نزواته العابثة، ولا يختلف أبو مأمون سمسار العقارات عن هذا الرهط. يذكر أن الراوية في هذا العمل من النوع الذي يعقدُ علاقات بين وحدات حكائية مُختلفة من حيث زاوية الرؤية لذا توجدُ راوية واحدة بزوايا متعدد للرؤية، الأمر الذي يسوغ لابنة الأعمي بتصوير جوانب من المجتمع الدمشقي عندما تهجر إليه الأسرةُ وتستقرُ في (المنارة) بضواحي العاصمة، هنا ينصرفُ موروي إلى المسمرة بعدما تتزوج ابنته جميلة (جيمي) بأبي مأمون ولا تصل إليه استخفافات أهل البلدة باختفاء زوجته (بهو) مع عشيقها وظهورها المفاجيء من جديد، تتزامنُ الهجرة مع بدايات العهد الجديد والإجراءات الشكلية تحت يافطة الإصلاح. هوية جريحة ما يُسْتعرضُ في ثنايا هذا العمل من عالم متفسخُ على كل المستويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية لا يتولد منه غير إنسان تائه، ضائع الهوية، خاسر لصفاته المميزة، هجين بلا ملامح، هنا تحوير الأسماء يُفهمُ منه أيضاً وجود جرح في الهوية، فجميلة التي تصبح (جيمى) في الوسط الفني لا تعرفُ هل هي من خربو أو من موروي ،كما أن بريندار الذي لا يخطيء المتلقي في قراءة مدولولات رمزية للاسم، عصامي ينشأُ مفتقداً لحنان ودفء الأُسرة وعندما يتلقي بجيمي في دمشق يفلح الإثنان في بناء حياة مغايرة، ولا تفوت المؤلف الإشارة إلى بوادر الإنتفاضة وتباين الآراء حولها، وبذلك يتداخل في تلافيف العمل الماضي مع الماضي القريب والمستقبل كون المستقبل مرهونا بما يتمخض عنه الحراك الشعبي. ما يجب ذكره أن أسلوب الكاتب يتميز بالخفة وسرعة التنقل من فصل إلى آخر والتمازج بين وثائق تاريخية بالمتخيل. كما تنتهى الرواية بالتدوير وإنتشال الراوية من البحر. ويحمل دال العنوان مفارقة عندما يحيلك إلى عشبة الخلود لدي كلكامش.