“حرام أن تَبقى في هذه المدينة. أنت مكانك في القاهرة” هكذا نطق الشّيخ محمد كمال عجلان الأستاذ بالمعهد الديني بمحافظة قنا، مبديا إعجابه بتلميذه الطاهر أحمد مكي آنذاك، وبجودة عباراته وصقل لغته في موضوعات الإنشاء التي يكتبها. فسأله: ماذا تقرأ؟ وكانت الإجابة: الأهرام والرسالة. وقتها كانت تصل إلى قريته نسخة واحدة من المطبوعتين، يقرأهما لأهل القرية. قال عنه الراحل عبداللطيف عبدالحليم “الطاهر مكي هو شيخ الأدب والنقد في دار العلوم؛ بلا منازع. فمن تتلمذ على يديه حاز الفخار والرفعة، ومن لم ينل منه أنوار المعرفة، وقبسات اليقين والعلم الروحاني؛ فلا يلومنَّ إلا نفسه”. كما وصفه عميد كلية دار العلوم علاء رأفت في يوم تكريمه الذي أقامته مؤسسة الأهرام لبلوغه سن التسعين بأنه “على مدى تاريخه قدم النموذج الرفيع للأستاذ الأكاديمي”. 3 شارع مصدق الجيزة. هو الطريق إلى بيت الطّاهر أحمد مكي، وإلى قلبه أيضا. عنوان طرقه كل الباحثين من جميع أنحاء مصر، وأيضا من خارجها. ومن هذا العنوان عرفنا الوجه الآخر للطاهر أحمد مكي الإنسان الذي يفتح بابه لزواره بنفسه، وينادي كل من يقابله من تلاميذه ب “يا ولدي”، وقبلها يفتح قلبه وأسراره باستثناء “سرّ نانا” قصة الحب التي لم تكتمل. لا تختلف نشأة الطاهر أحمد مكي المولود في 7 من أبريل عام 1924 عن العلماء الأوائل الذين نشأوا في ظروف محبطة إلا أنهم انتصروا. يكفي أن يشير مكي إلى أن بلدة قرية كيمان المطاعنة التي تنتمي إلى مدينة إسنا جنوب مصر، لا يوجد فيها مدرسة، والمدرسة الوحيدة التي أنشئت فيها كانت بمناسبة مرور زعيم الأمة وقتها سعد زغلول عام 1924، فاقترحوا بناء مدرسة حتى تكون سببا وجيها لمرور الزعيم، وقد كان. ينتمي مكي إلى أسرة من عرب المطاعنة هي من قبائل عربية هاجرت مع الرحلة الهلاليّة إلى شمال أفريقيا، ثمّ عادت واستقرت في صعيد مصر، وحافظت على عاداتها وورث منها اللغة العربية السليمة. حفظ القرآن في كُتَّاب القرية وهو ابن تسعة أعوام، ثمّ التحق بالتعليم الأزهري فحصل على الابتدائية من المعهد الدينيّ بقنا. تخرج في كلية دار العلوم بالقاهرة عام 1952، وفي عام 1961 حصل على دكتوراه الدولة في الأدب والفلسفة بتقدير ممتاز من كلية الآداب بالجامعة المركزية بالعاصمة الإسبانية مدريد. بعد عودته إلى كلية دار العلوم التي عمل بها أستاذا، وترقّى إلى أن وصل إلى وكيل الكلية للدراسات العليا والبحوث حتى عام 1989. سافر إلى البرتغال ليدرس الأدب الأندلسي، ثمّ عاد بعد عام، إلا أن رحلاته الخارجية تواصلت وعمل أستاذا بجامعات تونس والإمارات العربيّة المتحدةومدريدوالجزائر والأردن. أسرار الأدب المقارن يُعزى للطّاهر أحمد مكي الدور الكبير في تعريب المناهج في الجزائر بعد الاستقلال، فبعد أن طلب الرئيس هواري بومدين الغيور والمتعصب للغة العربية من الرئيس عبدالناصر الدعم. انطلقت فورا من مصر حملتان؛ الأولى كانت لأساتذة المرحلتين الثانوية والإعدادية، والثانية لأساتذة الجامعة. فشارك مكي ضمن الحملة الثانية، وقد نجحت الحملتان في وقف مدِّ التفرنس في المدن والمدارس والجامعات. أما الدور المهم لمكي فكان في مطالبة الدولة إلى حد الاستماتة مع إسماعيل معتوق (عضو المجلس النيابي بعد الثورة والمترجم الشخصي للرئيس عبدالناصر) بإنشاء جامعة قنا. مات معتوق دون أن يتحقق الحلم، ولكن تحقّق على يد الطاهر في عام 1995 حين صدر القرار الجمهوري بإنشاء جامعة جنوب الوادي التي كانت أحد فروع جامعة أسيوط. لا يمكن التغاضي عن أسماء الرعيل الأوّل ممّن بدأوا الحرث في الدراسات المقارنة مثل فخري أبوالسعود الذي كان أوّل من طرق باب المقارنات عبر مقالاته التي نشرها في مجلة الرسالة التي كان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات، ثمّ دور الرائد الذي خطا خُطوات جادة في هذا المجال محمد غنيمي هلال الذي كان متأثرا بالمدرسة الفرنسيّة، حتى جاء مكي ليتجاوز نتاج الرّواد دون غمْط، ويكمل المسيرة. جاء اهتمام مكي بالآداب المقارنة في مرحلة رحلة الجزائر لتعريب التعليم الجامعي، فكان نظام التعليم يقضي بحصول الطالب على شهادة الأدب المقارن وفق المناهج الفرنسية، ومع الأسف لم يستطع الطلاب النجاح، فاضّطروا إلى تعريب المنهج وهو ما نجح فيه مكي بتعريبه “ملحمة السَّيد”. يشير مكّي إلى أن مصطلح “المقارنة” هو نتاج القرن التاسع عشر الميلادي، ولم يعرفه العرب، وإن كانوا قد عرفوا الأدب المقارن بغير مصطلح وإنما بالتطبيق في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، والرابع الهجري/ العاشر الميلادي حيث النقائض والموازنة والمعارضة. ومن هنا جاء كتابه العَلَامَة “الأدب المقارن: أصوله وتطوّره ومناهجه”. ثمّ ترجمة “ملحمة السِّيد” وهو نصف عربي ونصف إسبانيّ يجيد اللغة العربية وَيَدْرُسُ لشعراء العرب. إلا أن مكي يعود بالملحمة إلى السّيرة الهلاليّة. ويعترف بريادة محمد غنيمي هلال، غير أن غنيمي كان متأثرا بالمدرسة الفرنسية، ولم يتجاوزها إلى غيرها. كما استحدث ما غاب عنه بعد أربعين عاما، فذكر أن الجاحظ حاول أن يدرس مفهوم البلاغة عند العرب والفرس واليونان والهنود، وهو بذلك يطبّق شرط اللغة الذي تتطلبة المقارنة. العجيب كما يقول “إن الجاحظ يقف عند الشروط الخاصة بالمترجم”، وهو بهذا يسبق الأدب المقارن والنقد الأدبي بألف عام كاملة. ومثلما يردّ الجذور الأولى للمقارنة إلى التراث العربي، فإنّه أيضا يذكر الدور الكبير الذي لعبته المدرسة النظاميّة في بغداد، فهو يراها أصل الجامعات في أوروبا والعرب. دقة الطّاهر مكي العلميّة أو منهجيته واضحة في أبحاثه ودراساته وأيضا في تصويباته، فمثلا يورد أصول النسخة التي حقّقها لكتاب “طوق الحمامة” للفقيه ابن حزم الأندلسي، فيقول “إنَّ النسخةَ في الأصل كانتْ في الدولة العثمانية وأنّ ملك هولندا أَرسل مبعوثا له في آخر القرن التاسع عشر ليشتري المخطوطات من الأستانة، واشترى آلاف المخطوطات، ثمّ قدمتها هولندا إلى مكتبة لَيْدن، ومن ضمن المخطوطات كانت هناك نسخة وحيدة من كتاب (طوق الحمامة)، وهذه النسخة عربية نسخها رجل من فلسطين من مدينة صفد”، واعترف الرجل بأنه اختصر منها دون أن يشير إلى الشيء المختصر هل الشعر أم الأحداث؟ وقام الطاهر بتصويب الأخطاء الواردة في النسخة بمراجعتها ومقارنتها بالمصادر التاريخية. اليساري المتمرد حافظ مكي على علاقة وثيقة باليساريين الذي كان عضوا منهم إلى أن استقال عام 1948 بعد موقفهم من نكبة فلسطين عام 1948. وكان قد ترجم إعجابه المبكر بحسن البنا، ولكنه لم ينخرط معه في حركته، في مقالة فريدة ضافية تحلّل جوانب شخصية الأخير، وقد احتلت خمس صفحات من العدد السابع لمجلة الدوحة عام 1985 بعنوان “صورة إنسانية بعيدة عن السياسة: حسن البناء كما عرفته”. قدّم مكي فيها صورة لمؤسّس حركة الإخوان المسلمين وعن علاقته به وفقا لتجارب حياتية معه عندما زار قريته في أغسطس 1938 وحلَّ ضيفا على عائلته في جنوب مصر في كيمان المطاعنة، ثمّ علاقته به عندما نُفي البنا إلى قنا، وقد كان مكي تلميذا في معهدها الابتدائي، إلا أنّ لقاء الملازمة كان في القاهرة عام 1944، عندما انتقل إليها. وإن كان خرج من عباءة الإخوان إلى الفكر اليساري الذي اعتنقه ثمّ تمرد عليه هو الآخر وقال “إن اليسار كفكرة وكمبدأ انتهى منذ ما يقرب من 50 عاما،وتحوّل إلى مصلحة يستفيد منها بعض ممن يرفعون الشعارات” في إشارة إلى ما طرأ على رفعت السعيد أمين الحزب وقتها. كتابة مكي عن الذين أثروا فيه تعتبر نهجا لديه. فهو دائما لا ينسى أصحاب الفضل، فقد أشار أكثر من مرة إلى محمد كمال عجلان في فترة من حياته، ثم دور محمد سعيد العريان حينما سأله عمّا يحتاجه لقراءة الأدب الأندلسي أثناء رحلته للبعثة فأشار إليه بكتاب “الحلّل السندسية في الأخبار الأندلسية” لشكيب أرسلان، ثم في مرحلة البعثة لا ينسى درو أستاذه الإسباني الذي أشار إليه بقراءة ابن حزم، فكان إحدى ثمارها تحقيق كتابه الأشهر “طوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف” ترتبط هذه الصفة بصفة أخرى تتمثل في الذود والدفاع عن الكثيرين. ومن مواقفه المشهورة تضامنه مع أحمد فؤاد نجم بكتابة مقدمة لديوانه وهو أشعار بالعامية مع أن مكي واحد من المتمسكين باللغة العربية الفصحى، إلا أنّه تضامن مع نجم بعد أن استمال السّادات الكثير من المثقفين لصفه بسبب موقفه من الحرب، وكان نجم واحدا من المعارضين، فكتب له المقدمة تحية لموقفه السياسي وتمسُّكه بمبدئه. الأكاديمي ونافذة الصحافة في منتصف الثمانينات وقع اختيار اليسار على مكي ليكون رئيسا لتحرير مجلة “أدب ونقد” التي كانت إحدى صفقات التوازنات التي أقامها السادات في السبعينات، حين قال سأبقى في المنتصف وعن يميني تيار وعن يساري تيار انحاز لمكي على حساب عبدالمحسن طه بدر وعبدالمنعم تليمة. وقد قبل، وإن كان وفق شروط ماوتسي تونغ، حسب قوله بأن “ندع مئة زهرة تتفتح”. وبالفعل في يناير 1984 صدرت مجلة أدب ونقد بترويسة يتصدرها مكي رئيسا للتحرير، بل وكتب افتتاحة العدد الجديد، مدشنا لسياسة المجلة وشارحا للظروف العصيبة التي خرجت فيها، حيث “أجدبت الثقافة، وجفت ينابيع الإبداع، وران الركود على العقول، ومالت الأقلام إلى الدعة”. ومن ثمّ فقد جاءت المجلة لتكون خطوة على الطريق البناء الشّاق، الطويل، المُجْهَد، ولكي يتحقّق هذا فثمة مبادئ أرساها من أهمها أن هذه مجلة شعبية، مجلة أهالي، لا تدين بوجودها لأي هيئة حكومية، وولاؤها للقارئ في المقام الأول. ولم تكن مجلة أدب ونقد التي قضى مكي في رئاستها ثلاث سنوات تجربته الصحافية الوحيدة. لمكي تجربة مع الصحافة تبدأ منذ أن كان طالبا. فقد عمل محررا لإحدى الصحف التي يمتلكها تاجر شاي يروِّج لبضاعته، ثم انتقل بعد ذلك ليعمل مصحّحا في مجلة “الغرفة التجارية” وكانت بداية لاستقلاله الماديّ حيث كان يُصحِّح مقالاتها مُقابل خمسة جنيهات. وأثناء هذه الفترة تعرف على محمد مصطفى حمام وكان صحافيا يكتب الخُطب المَسْجُوعَة للنحاس باشا وفؤاد سراج الدين، وعرض عليه أنْ يعمل مصحّحا في مجلة “النداء” الأسبوعيّة التي أصدرها أنيس سراج الدين لاحقا. ثم بدأ الكتابة في جريدة «الكتلة» لمكرم عبيد باشا، وكذلك “الزمان”. ثمة مقالات كان يرسلها إلى الأهرام ومنها مقالته عن «ضمير العالم في إجازة» بعد اجتياح هولندا لإندونيسيا، ونشرتها الأهرام. وبالمثل حدث مع مقالته عن كتاب إسباني بعنوان “التجسّس الإسرائيلي على مصر” فنشرها لويس عوض في ملحق الجمعة على صفحتيْن. مارس مكي الكتابة للعديد من الصحف العربية مثل “البيان” والمجلات مثل “الدوحة” و”الهلال” القاهرية و”الرسالة” و”المجلة”. الكثير من المقالات تدرو في إطار الدراسات الأدبية والنقدية، وبعضها في الشأن العام، وفي فترة التسعينات أسندت إليه مجلة “الهلال” العريقة تحرير باب “لغويات”، فكان بابا حيويا يتصل بكل القضايا اللغوية الإشكالية مثل الفرق بين إذا وإذن، ودفتر وقرطاس وكاغد، والفرق بين لافت للنظر أو ملفت له، وغيرها من الفروق المهمّة. يصفه الكثير من تلاميذه بأنّه موسوعيّ، فقد ترك للمكتبة العربية الكثير من الكتب التي كان بعضها رائدا في مجاله نحو كتاب “القصة القصيرة دراسة ومختارات”، وهو الكتاب الذي أدخل حقل القصة القصيرة إلى الدرس العلميّ في الجامعات، فقبله لم يكن أحد يعترف بها. إضافة إلى الترجمات عن الإسبانية والبرتغالية والقشتالية والفرنسية، وهي ترجمات كما يصفها أهل الاختصاص بأنها “دقيقة ونموذج للإتقان والجمال الفني” وتنم عن معرفة دقيقة بأصل اللغات وانحرافات اللغة، فعُهد عنه أنه كان يجيد ستّ لُغات مختلفة. وترجم عنها الكثير ومن أشهر ترجماته “ملحمة السِّيد” وجاءت عن اللغة القشتالية. إلى جانب عمله كأستاذ بالجامعة كان عضوا بمجمع اللغة العربية، وحاز العديد من الجوائز والأوسمة منها: جائزة الدولة التقديرية، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، جائزة التميّز من جامعة القاهرة، وغيرها. جاءت هذه الاهتمامات تأكيدا لدور الأكاديمي الذي يجب أن ينخرط في الشأن الثقافي ولا ينعزل في برج عاجي. وهو دور مستمدّ من الجيل الأوّل مثل طه حسين وأحمد أمين وآخرين كبار يندر وجودهم اليوم.