تقدم اللغة مساحات فضلى من المناخات المتشبعة بالحيوية التي تفتح المجال للخاص والساخر بتأثير تلك التناغمية التي تمتلكها الكلمات، وما تمتلكه من فيض عاطفي في استخدام الشاعر لأغراضه المتنوعة عبر وحداتها المتكاملة، وما تملكه من الخاصية المميزة التي تمنح للشاعر إسلوبه الخاص به أي هويته الشخصية وفيها من قوة التناقض الباطني والتناقض الظاهري – المفارقة ما يجعلها تقدم البدائل المناسبة والسريعة، وهذه البدائل: بمثابة الحلول أو بالأحرى متطلبات الانتقال من المثير إلى الأكثر إثارة حينما تهيئ للشاعر أكثر من حاسة للوصول إلى متطلبات الوصول إلى المطلق في النزعة الجمالية، وهو إحتفاء للشاعر بعبقرية اللغة ومزاجها المفعم تارة بالرضا وتارة بالهستيريا لتقديم صورها عبر قفزاتها الرشيقة بين الأشياء، إذ ذاك لا تكتفي بما تعطيه وما تقدمه من تأثيرات في مكان النص وزمانه وما تقدمه في ذاكرتها الجمعية واقتران قاموسها بطبيعتها التحولية كي تتخطى الجمود وتفلت من القولبة. ف مفهوم الحداثة (modernity) استعداها لقبول خلق لغة من وإدامة إنفتاحها على الأشياء غير المرئية حين يفيض الخيال بمتحسساتها فيمتزج العادي بغير العادي بقوتها التماسكية ذات الدلالات الصوتية. يصف شوبنهور ذلك بقوله: "إن اللغة تشكل ترابط ذات البعض مع البعض) أي أنها لا تكتفي بالإشارة عبر تسمية الأشياء، بل ترتبط بقدرات البناء الداخلي للكلمات ليتم بناء ما يتم احتياجه من مشاهد ينتظم فيها السحر، وأصالة التعبير. يقدم مالارميه في شعره شيئا من المعاني التي لا تفهم، هل يركز الشاعر في نصوصه على شيء ما؟ ويعد هذا التركيز تطورا في شعره، وهل يستطيع من جمع نشوته في ذلك التركيز، وهل هو التركيز الذي يخص مواضيع بعينها أم يخص حالة آنية عابرة تركزت بقوتها في وجدانه، أم هو الهروب من المثالية والإدمان على الإسترخاء؟ وهل يمس هذا التوتر طرائق التفكير ويصل الى التشكيك بالإيمان وبالعقائد الدينية وما صاحبها من أمثلة عليا مثلما فعل معاصروه؟ إن مجالات الإغراء لا حدود لها عند التركيز على موضوع بعينه شريطة أن يؤدي هذا التركيز إلى إحداث مخارج لموضوعات أخرى، ووفق النظام الداخلي المحسوب لعملية الإشتغال ونزعات هذه العملية واتجاهاتها الرمزية وقدرة التجريب والمحاكاة فيها وسيطرة أو إختلال التوازن ما بين الإستسلام لنشوة القلب أو الإذعان لقوة العاطفة الباطنية. إن الإلهام بالشعر لا يخضع للصدفة أو العفويةِ، فالألم والمعاناة دليل التطهير والتطهير يعني التسامي مع الكوني والإنفلات في عالم الجمال وإفجاع الطبيعة بما يمتلكه الشاعر من متحسسات قصد النيل منها ووضعها على طاولة التشريح، فمالارميه لا يجد أن هناك تقسيمات بموجبها تقسم العاطفة أو يقسم الوجدان أو ينظر إلى ذلك بأنه صنعة، وهذا بأنه حس فطري. إن رؤيته تنطلق من أن الإلهام يعني إطلاقا إجباريا للمكبوتات وخلق فضاء السحر الآخاذ ليتم الإصغاء بهدوء لمعجزات تصنع معجزات وتتحول كل الأشياء في جسد الإنسان إلى حواس تطارد بعضها البعض، وتشترك بعضها مع البعض، بالفيض وبدون حيادية إلى المزاج الأكثر إنتشاءً وتحولا نحو بسط سلطة الخيال على أكبر المساحات إثارة للتعامل مع الواقع بغير واقعيته. ولاشك أن هناك غاية مشتركة لمجموعة العوامل التي تمثل أدوات الإنتاج للنص ويتم الإستحكام بها من خلال العمل الفني، أي فنية تحفيز تلك المشتركات على إضافة شيء من السحر الإضافي، وإن سمي ذلك بالتناغم أو بالتناقض فهو إستثارة مستمرة للدهشة لكي يصبح كل شيء في ذلك المحتوى مهما وفريدا، ولن تكون هناك حاجة لتفسير اللغة أو عرض سخريتها إذ هي تستمر في تقديم عرضها الشيق بتفكيك دالاتها المألوفة، وهو تحول ليس بالمقصود نحو الغموض والإلتباس رغم أنه تحول مفرح بالنسبة للشاعر كون المنتج قد تحرر من عوائق كثيرة ووصل إلى غايته مادامت الغاية البحث عن الجمال والوصول حد الإفراط به ضمن اللايقينيات والأسرار والشكوك. ولاشك أن مالارميه عمل كذلك ضمن المبدأ الشعري الذي يستند الى إنتهاك كل شيء بما في ذلك القناعات الأخلاقية، فليست الكلية والتناسق أساسا نهائيا للجودة إذ أن الاضطراب والفوضى مقودان مهمان في العملية الإنتاجية إذ ما توفرت رؤيا نفسية مصاحبة من الإيحاء ببعد دلالي أعم لكل من اللغة والعاطفة في إطار المحتوى المتعدد الأغراض في النص الشعري. وليس منَ الغرابة أن يكون التنظيم من خلال الفوضى والتي من خلالها يتحرر الشاعر من العديد من القيود الشعرية الموروثة مادام الشعر هدفا غير عقلاني، وتكمن ذاتيته في الضرورة لفهم خلوته الغيبية وانقطاعه في لحظة خاصة وراقية عن العالم المألوف.