يناقش كتاب " الأبيض المتوسط .. تاريخ بحر ليس كمثله بحر " أعظم بحيرة طبيعة ، ومركز التاريخ الروحي ، وملتقى الحضارات الأعظم في تاريخ البشرية ،والكتاب عمل موسوعي من تأليف جون جوليوس نورويش ، وهو لورد بريطاني ، و مؤرخ وكاتب رحلات ، له اهتمام خاص بالعمارة و الموسيقى ومسرحيات شكسبير التاريخية ، وعازف بيانو . ونقلة إلى العربية المترجم البارز طلعت الشايب عن المركز القومي للترجمة 2015 فى 776 صفحة ، بصحبنا فيها برحلة طويلة فى الزمان و المكان ، تبدأ بالبشر ، و ليس بالصخور و الماء ، كما يقول المؤلف الذي زار كل البلدان الواقعة على شطآنة ليكتب قصته . تبدأ من فينقيا ومصر القديمة ، وتنتهي مع صمت مدافع الحرب العالمية الأولى . البحر الأبيض المتوسط معجزة . عند رؤيته على الخريطة ، ربما للمرة المليون تأخذه على علاته ، أما عند النظر إليه نظرة موضوعية نكتشف فجأة أن هناك شيئا فذاً ، فريداً ، وكأن هذا الكيان المائي قد صمم عمداً ، وبتأن ، وعلى نحو لا نظير له على الكرة الأرضية ، ليكون مهداً للثقافات . لا عجب كبيراً إذن أن يحتضن المتوسط من أكثر حضارات العالم إبهاراً ، ويشهد ميلاد ثلاثة أديان كبرى وخروجها إلى حيز الوجود . ليس هذا فحسب بل أنه وفر وسائل الاتصال الرئيسية . فى العصور القديمة لم يكن هناك طرق ، وكانت وسيلة الانتقال الوحيدة المؤثرة عن طريق الماء ، مع ميزتها الإضافية وهى القدرة على نقل أحمال ثقيلة لا تستطيع أي وسيلة أخرى تحريكها . أحد أسئلة التاريخ القديم التى لم نجد لها إجابة هو : لماذا بعد ألفيات عديدة من السنين على وجود إنسان الكهف ، كان أن ظهرت الومضات الأولى للحضارة فى مناطق متفرقة بعيدة عن بعضها ، وفى نفس الوقت تقريباً ؟ بالنسبة للمناطق حول المتوسط كان هذا هو سنة 3000 ق . م تقريباً . منذ الأزمنة الباكرة كان المصريون حالة فريدة خاصة ومتجانسة . يبدو أن معاصريهم الفينيقيين لم يحالوا قط أن يخلقوا مثل تلك الحالة الفريدة ، وبالرغم من أنهم كانوا رحالة مجبرين على الترحال ، كان موطنهم فلسطين ، وهناك ذكر فى العهد القديم لشعب صور وصيدا و بيبلوس و أرواد . وعندما كان المصريون يبنون الأهرام ن كانت هناك كذلك حركة نشطة فى تكريت . كان الناس هناك يشتغلون بالنحاس و البرونز ، و الأهم من ذلك أنهم كانوا يعملون بصناعة السكاكين البدائية من الزجاج البركاني الداكن المعروف ب " السبج " وهو زجاج أقرب شبهاً بالفحم ، وعندما يتشظى تصبح حوافه حادة كالموس . كان السبج يستورد من الأناضول ، و الاستيراد يعنى التجارة . ويبدو أن كريت كانت قد أصبحت بحلول عام 2000 ق .م مفترق طرق التجارة فى الحوض الشرقي للمتوسط . قبل ستة أو سبعة آلاف سنة ، كان البحر الأبيض المتوسط قد تمخض عن الحضارة الغربية كما نعرفها . حجمه الصغير نسبياً ، كيانه المحصور ، اعتدال طقسه ، خصوبة وتنوع تضاريس شطآنة الأوروبية و الآسيوية ، كل ذلك ساعد على توفير بيئة حامية فريدة لحياة و ازدهار شطآنة الأوروبية و الآسيوية .. ويبقى سؤال مهم يحتاج إلى إجابة ، إلى أي مدى يظل المشارك مهماً ؟ هل ما زال البحر المتوسط يحتفظ بالأهمية التي كانت له عندما كان العالم صغيراً ؟ من أسف أن الإجابة لا بد أن تكون : لا ! عندما كان العالم صغيراً كان بلا حدود ، والآن انكمش على نحو مؤسف .. ومعه أنكمش البحر . اليوم خوض حرب فى العراق أو حتى فى كوريا أسهل من نقل جيش من إنجلترا إلى أسبانيا قبل قرن . وفى الخاتمة يقول المؤلف لقد تتبع البحر الأبيض و تحولاته من مهد إلى لحد ، من رابط إلى عائق ، ومن نعمة إلى نقمة ساحة قتال ، كم هو مؤسف وقد تحول إلى ملعب ، والموانئ القديمة إلى أحواض لليخوت ، وبدلا من السفن القديمة ثلاثية المجاذيف ، قوارب التزحلق النفاثة . لكم كان من الأفضل لو أسدلنا الستار على الأبيض المتوسط الذي كان ، عندما كانت كل موجه تروى قصة ، وكل قطرة ماء تلمع بالنبل و الكبرياء . جدير بالاشارة أن كتاب "الأبيض المتوسط "، تأليف : جون جوليوس نورويش ، ترجمة : طلعت الشايب ، صدر عن المركز القومي للترجمة 2015 ، ويقع في نحو 776 صفحة من القطع المتوسط .