عرض مهرجان جمعية الفيلم في دورته الفائتة الفيلم الأخير لمحمد خان «قبل زحمة الصيف» فسلط الضوء مجدداً عليه، وبالطبع لم يكن عرض الفيلم هو مسوغ التكريم الوحيد للمخرج الراحل، وإنما تم الاحتفاء به بإهدائه الدورة ال43 كنوع من الوفاء له كونه أحد السينمائيين الكبار. ويستدعي المقام هنا قراءة الفيلم على ضوء هذا الاحتفال باعتبار أن التكريم حق مكتسب للمبدع لا يسقط بالتقادم، فإلى الفيلم. في سينما محمد خان ليس شرطاً أن تكون هناك حدوته ذات بداية ووسط ونهاية، ولكن يكفي أن تستنتج ما تحمله الصورة وتشي به الحالة الكلية كي يصلك المعنى كاملاً، وهي فلسفة خان التي اعتدنا عليها في غالبية أفلامه، فهو لا يستخدم الرموز وإنما يعتمد على ما يمكن تسميته بالتورية، وهو أسلوب أكثر بلاغه لأنه لا يبالغ في التعقيد ولكنه يترك المفاهيم تتداعى في ذهن المتلقي، ليكون رؤيته الخاصة عبر معطيات الفيلم، من سيناريو وحوار وموسيقى وديكور وإكسسوار وإضاءة وخلافه. في فيلمه المذكور يقدم بالتعاون مع السيناريست غادة شهبندر حالة واقعية جديدة لحياة مختلفة تبدو في ظاهرها ترفيهية، بينما لا يدل جوهرها على ما تعكسه الصورة المبهرة لمجتمع أولاد الذوات أو الطبقة الأرستقراطية فكل شخص يمثل حالة منفردة تنطوي على كثير من الهموم والمشكلات وأوجه الملل، ويمثل ذلك النفاذ داخل كل شخصية، محاولة للتفتيش عن أسرار ومكنون تلك الطبقة التي تثير الدهشة والتساؤل عن مصدر سعادتها ورفاهيتها المطلقة، دون النظر إلى ما تعانيه من مشكلات نفسية واجتماعية، وهو وقوف عند حدود الشكل فقط يراه المخرج الراحل قصورا في الرؤية أساسها الخدعة التي تقوم عليها المفاهيم الاجتماعية المغلوطة غير الدقيقة. ووفق وجهة نظره يقدم لنا المضمون الحقيقي لذلك المجتمع الأرستقراطي الجديد متمثلاً في شخصية هنا شيحا، السيدة الغنية المطلقة التي تعيش حالة من الملل بعد انفصالها عن زوجها، وتحت ضغط الحالة النفسية تلجأ إلى إقامة علاقة عاطفية فاشلة مع ممثل مغمور يبتزها مادياً، وتنتهي علاقتها معه بمشاجرة، وإزاء هذا التخبط تعاني من إحباطات كثيرة تحاول مقاومتها بالعزلة داخل المجتمع المغلق، ويعرض محمد خان لنموذج آخر يمثله ماجد الكدواني، طبيب ومدير مستشفى خاص يتسبب في جريمة طبية، نتيجة خطأ قام به أحد مرؤوسية، فيهرب إلى الساحل الشمالي بصحبة زوجته، وهناك يعيش حياة رتيبة متكررة لا تخرج عن قراءة الصحف اليومية وري الزرع المحيط بالشاليه الذي يقطنه. ويأتي النموذج الثالث، الممثل الشاب أحمد داوود عامل بسيط قادم من جنوب مصر، جاء للساحل الشمالي ليحل محل شقيقة في خدمة الكبار، وهنا نجد تشكيلة اجتماعية متوافقة ومتناقضة طبقياً، يجمعها هم واحد يؤدي بها إلى نتائج متشابهة، فالجميع محبط وعاطل عن العمل ومفتقد للسعادة الحقيقية، ويتحايل على الرتابة والروتين كي يوهم نفسه بالتغيير، وأمام هذا التوقف القسري عن فعل أي شيء ذي جدوى، يشغل نفسه بإشباع غرائزه الأساسية، فالطبيب ينصرف إلى الأكل ومداعبة السيدة الغريبة الجميلة المتحررة التي تسكن في الشاليه المجاور ويقضي وقتاً في محاولة الوصول إليها والاقتراب منها، ليعوض النقص العاطفي الذي يعانيه في علاقته مع زوجته التي تهرب بدورها إلى رياضة اليوغا لتقاوم رغبتها المكبوتة. يحرك خان الشخصيات في اتجاهات مختلفة، ولكن في الدائرة نفسها، فهم رغم اختلاف ثقافاتهم، إلا أنهم متشابهون في الهموم، بدءاً من الطبيب الهارب والسيدة المتمردة، وانتهاءً بالشاب الجنوبي البسيط الذي يحلم بإيجاد فرصة عمل ثابت تعفيه من الخدمة والإجهاد والمشاوير، وهنا إشارة بليغة إلى المعنى الأهم وهو، أن الرفاهية البادية على الشخص لا تنفي همومه ومشاكله الشخصية، وأن الإنسان في النهاية خاضع في تكوينه السيكولوجي للحالة المزاجية، ومرتبط بالتوازن العام للحياة والمجتمع، وأي خلل يحدث في المنظومة الاجتماعية الكلية يؤثر بالضرورة على الأفراد. ولكن يؤخذ على المخرج الراحل بعض المبالغات في إبراز جرأة البطلة هنا شيحا في الملابس الساخنة، والعلاقة غير المتكافئة بينها وبين الممثل المغمور، وكذلك النهم الزائد في الأكل للطبيب واستخدامه للأسماك كغذاء شهي له علاقة بتحسين الصحة والكفاءة الجنسية، وهي إشارة من بعيد لوح بها خان ليعطي للمشاهد دلالاتها المقصودة من غير ضرورة تحتمها الأحداث، وكذلك وقع خان في إشكالية التكثيف الدرامي الشديد نتيجة المعالجة المقتضبة في السيناريو، وعدم إعطاء الفرصة لبعض الشخصيات كي تتمدد في مساحات أكبر تكشف عن هويتها وأسباب وجودها، كالبواب الذي ظهر في مشهدين فقط، وشخصية أحمد داوود التي اقتصرت على مجرد الظهور العابر والاختفاء المفاجئ. لقد اعتقد المخرج الراحل محمد خان أن الصورة المبهرة والموسيقى الناعمة وباقي المفردات الفنية ستعوض النقص في السيناريو، وتوحي بما هو مقصود ولكن خانه التقدير في تجربته الأخيرة، فجاء فيلمه خفيفاً أكثر مما ينبغي يحمل مفهوما حقيقيا ومعنى دلاليا كبيرا ولكن ينقصه العمق.