رحل عن عالمنا الكاتب البريطاني جون برجر عن عمر ناهز 90 عاما، بعد مسيرة إبداعية جالت به بين لندن وسويسرا فإيطاليا، ليستقرّ نهائيا في قرية كوينسي في جبال الآلب الفرنسية مع زوجته بيفرلي وأبنائه جاكوب برجر المخرج السينمائي وإيف برجر الفنان التشكيلي وابنته كاتيا. وهي مسيرة عناد فكري مع السائد تقاطعت فيها فنون الرسم والفوتوغرافيا والسرد والشعر والسينما والرحلة، مع الالتزام الأيديولوجي اليساري بقضايا المهمَّشين والمظلومين من سكّان العالَم، وقد ترك وراءه مجموعة من الكتب مثل «الكينغ» و«العصفور الأبيض» و«فن وثورة» و«كتابة الجراح»، ورواية «ج» التي نال بها جائزة بوكر، واقتسم عائداتها مع حركة «الفهود السّود» الأمريكية، لكونه وجد في عناصرها مثالا للتحرّر من نير التمييز العنصري ومن ظلم المنظومات الرأسمالية الجشعة، وهو ما عرّضه لانتقادات سياسية عديدة في بلدان الغرب. وعلى حدّ ما جاء في تدوينة ابنه جاكوب، فإن جون برجر مات «دون خوف أو تهور، مات وهو مهتمّ وحريص على معرفة بقية قصّته.. مات كاتبًا». اليساري الذي يسكن لغته متكئا على أيديولوجيته اليساريّة ومخلصا لها تمكّن جون برجر من عبور هذا العالم عبورًا حرًّا كان فيه منشقًّا عن كلّ السُّلط السائدة السياسية منها والثقافية، فلم يُوالِ إلا صدقَ إحساسه بالعالَم، وكان حريصا على العيش خارج حدود الجغرافيات الرسمية؛ يعيش لفكرته وفي فكرته، ولا يؤمن إلا باللغة وطنا له ثابتا، ويرى أن الخلق الإبداعي إنما هو نمط من أنماط المقاومة والتحرّر. ولم يسعَ هذا الكاتب، خلال تجربته الإبداعية، إلى نيل الشهرة ولا إلى كسب المال مثلما فعل مبدعو جيله، وإنما ظلّ يعيش في الخفاء منصتًا للبسطاء من الناس، ومشاركا لهم تحمُّلَ أعباءِ أيامهم، من ذلك أنه عمل فلاحا في مزرعة أحد الملاك الفرنسيّين مقابل تمكينه من شقّة للسكن، وقد وجد لدى الفلاحين الذين يعيش بينهم في قريته الفرنسية «أشياء كثيرة مشتركة منها، احترام الأرض، والشعور الدائم بعدم الاطمئنان، والتوتّر من النظر إلى السماء». وكان العالَم بالنسبة إليه فضاءً غامضا، والطبيعة كيانات غامضة، والحياة ذاتها مادّة غامضة، ولذلك كان يرى في الفن سبيلا إلى تحرير غموض ما يوجد في العالَم من أشياء وأحياء، ووسيلة تنقذ حياة الفرد من العزلة. ذلك أنّ جميع موضوعاته الإبداعية تنصبّ على استنهاض متعة الوجود الإنساني، فهذا الوجود، على حدّ رأيه، متعدِّد ومختلف، ولن توحّد معناه إلا شعرية حياة الأفراد التي لا تُعطى لهم وإنما يخلقونها بجهودهم الفردية والجماعية. ولأنه يرى أن هناك ألفاظا وسخة في هذا العالم، فقد ظلّ جون برجر حريصا على تنبيه المبدعين إلى تنظيف كلماتهم التي يستثمرونها في نتاجهم الأدبيّ مما فيها من وسخ الاستعمال الرسميّ، وإلى التمرد على المتداول منها على نطاق واسع. وربما بسبب هذا قال عنه الروائي سلمان رشدي، إنّ ما يميّز أفكار جون برجر هو أنه كان قادرا دوما على أن يبيّن لنا أن ما نراه من أشياء إنما هو خطابات وقع التلاعب بها، ولذا وجب الحذر منها، والتيقّظ لمكرها لحظةَ تأويلها. وفي هذا الشأن، كان جون برجر ينتقد عمل كثير من المؤسّسات الدولية وسياسات الدول الرأسمالية التي تحتكر مفهوم الحرية وتُجريه على الشعوب مجرى خاصًا لا ينفع الفقراء والمظلومين والمهمَّشين، وإنما يخدم مصالح تلك الدول ويزيد من تأزّم أوضاع الناس، على غرار مسائل اللجوء والهجرة وإصلاحات التربية ونشر الديمقراطية. وقد انصبّت مقالاته الصحافية على نقد المجتمع الاستهلاكي القائم على الفصل البيِّن بين الفقراء والأغنياء، وتوريط الشعوب الضعيفة في نمط حياتي يفقدها خصوصياتها الثقافية والاجتماعية، فلا تجني منه سوى التكشّف أمام غول الرأسمالية الذي لا يتوانى عن ابتزازها بشيطانية وإفراط في مقدراتها البشرية والمادية مقابل منحها وهم التطوّر والتحضّر. ولعلّ من أجلى مظاهر نقده لمزاعم الديمقراطية في المجتمع الغربي ما مثّله بطل روايته «ج» الذي بدا فيها كائنا فوضويا مغرَّرا به، متحمِّسًا بصلفٍ لكلّ ما هو جديد، يُغذّي نمطُ الحياة الإيطالية في أوائل القرن العشرين توقَه الشيطانيّ إلى النهل من كلّ ما هو محظور اجتماعيا كالجنس والمروق عن الأعراف. نصير الفلسطينيّين لئن تعاطف كثير من الكتاب الغربيّين مع القضية الفلسطينية، ووقفوا إلى جانب الشعب الفلسطينيّ في محنته الكبيرة، سواء في مقالاتهم الصحافية أو في إمضاء بيانات إدانة الكيان الصهيوني فإن تعاطف جون برجر معها اتخذ له وجوها عديدة. فقد حرص هذا الكاتب على ربط علاقات صداقة مع المبدعين الفلسطينيين، وترجم بعض نصوص محمود درويش، كما كتب مقالات وصّف فيها معاناة المواطن الفلسطينيّ، وأدّى زيارة إلى فلسطين على إثر وفاة درويش، حيث كتب مقالة في الغرض سمّاها «مكان يبكي» قال فيها: «بعد أيام من عودتي ممّا كنت أظن، حتى وقت قريب، أنه الدولة الفلسطينية المستقبلية وهي في الأصل عبارة عن أكبر سجن (غزة) وأكبر غرفة انتظار (الضفة الغربية) في العالم، كان لدي حلم: رأيتني واقفا وحدي في صحراء رملية، عاريا إلى نصفي، وفجأة التقطت يد شخص مّا حفنات من تراب الأرض ورمتني بها في الصدر. ورأيت أن هذه العملية لم تكن عدوانية وإنما كانت لجلب انتباهي. وقبل أن تصل إليَّ حفنة التراب تحولت إلى قطعة من القماش الممزق، ربما كان ذاك القماش من القطن، وراحت شرائط القماش تغطّي جسمي. ثم تحولت هذه الأشرطة القماشية إلى كلمات وعبارات لم أكن أنا مَن كتبها وإنما كتبها المكانُ. وأنا أتذكّر هذا الحلم، ظلّت عبارة «أرض مسلوخة» تتردّ على ذهني ذهابا وإيابا، واصفة مكانا أو أمكنة حيث كل شيء فيها ماديا كان أو رمزيا، مجرَّد من تاريخه، مسروق، مجتاح ومتحوّل، إلا الأرض فقط ظلت ثابتة». وكان جون برجر قد استثمر صداقته مع نفر من الكتاب والفنانين الغربيّين ليحفزهم لأنْ يوقعوا معه على رسالة وجّهها سنة 2006 إلى كلّ الكتاب في العالم، طالبا منهم مقاطعة كل الأنشطة الثقافية التي يدعوهم إليها الكيان الصهيوني، وقد جاء في رسالته قوله إنّ وقف إطلاق النار هش بين إسرائيل ولبنان، كما أنّ الانتهاكات الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية يومية ومستمرّة، ووحشية الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية مبالغ فيها، حيث تمّ قتل أكثر من 200 فلسطيني، بينهم العديد من الأطفال، وفي الوقت الذي تجاهلت فيه إسرائيل قرارات الأممالمتحدة وحقوق الإنسان وانتهكت الأرض الفلسطينية وسرقت المنازل ودمرت المحاصيل، مازالت الحكومات الغربية تدعم «الحق الشرعي لإسرائيل في الدفاع عن نفسها»، بل هي مكّنتها من صفقات الأسلحة لقتل هؤلاء الفلسطينيين». وقد كتب اللبناني فواز الطرابلسي عن رحيل جون برجر ما يلي: «بغياب جون برجر أفقد صديقا كبيرا ومعلّماً ملهِماً غيّر نظرتي للعالم. مع جون برجر اكتشفت كيف يمكن للعين أن تتلقّن ثقافة النظر، أن تتعلم كيف تلتقط كل ما هو حميم ورهيف وجميل لأنه ناتج عن كدح الإنسان وتوقه للحرية والفرح والمساواة. والأهم تعلّمتُ من جون كيف يمكن للعين أن تقشع البداهة التي تتآمر على حجبها قوى الأمر الواقع، خلف كل أنواع الحيل والنفاق والخداع والقمع والتوريات». ولا شكّ في أن كاتبا ملتزما بقضايا المظلومين سيرى في الفن سبيلا إلى الانتصار للحق، بل سيرى أنّ «الفنّ في كثير من الأحيان، قد حاكم القضاة أنفسهم، بل ومكّن الأبرياء من حقوقهم، وخلّد للأجيال القادمة معاناة الأجيال الماضية، وإذ يفعل الفنّ ذلك فإنه ينجو من النسيان، إنه فعل لا يموت، لأنه يجري بين الناس جريان الإشاعة والأسطورة». الرؤية والموقف يقول جون برجر عن نفسه في حوار مع مجلة «الموقف الأدبي»: «اسمي جون برجر. ولدت في لندن سنة 1926 وأنا كاتب. عندما يتحدثون، يضيفون منذ 35 سنة، الكاتب الماركسي. كتبت روايات وأشعاراً ومقالات وتحقيقات، ونقداً فنياً وأدبياً ومسرحيات وسيناريوهات أفلام. لأن هذه كلها وسائط مختلفة لمحاولة فهم ومقاربة ما الذي يجري في عالمنا». وللوصول إلى هذا الفهم يقف الرجل دوماً بجانب المضطهدين، فلا يهم أن تكون فلسطينياً أو من أمريكا اللاتينية، أو مغلوباً على أمرك في أوروبا، فأنت أينما كنت فريسة لنظام قاس لا يرحم، ضمن عدة سياسات لم تزد العالم سوى تشويه». هزيمة العالم الكبرى هذه العبارة يطلقها برجر ليصف بها ما أنتجته النيوليبرالية ونظام العولمة، الذي أراد صياغة العالم وفق هواه. فالجميع يزدادون بؤساً، وسياسات الدول التي تظن خلودها، لم تنتج سوى المجاعات والحروب. لم تتعلم أوروبا من حربين عالميتين، ويحاول الغرب ويُصر على استعباد الشعوب في شكل جديد، لم ينتج سوى المزيد من المآسي. هنا يعقد برجر مقارنة بين قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، فالعالم في لحظة أصبح يغطيه الغبار، وهو نتيجة انعدام الرؤية الإنسانية في الأساس. اليأس الذي لا يُهزم خلال شهر يونيو/حزيران عام 2003، قام جون برجر، بزيارة إلى رام الله، ليصبح أحد المغضوب عليهم من دولة الاحتلال. تجوّل الرجل وذهب لمقابلة الناس، رأي الحياة تحت الحصار، والمنازل المتهدمة، ومراكز التفتيش، وفضح ما يحدث، في العديد من المقالات والأعمال. يذكر برجر أن «مراكز التفتيش تعمل كما لو أنها على حدود داخلية، مع ذلك هي لا تشبه مراكز تفتيش. هي بنيت على شكل حاميات عسكرية، بحيث يتحول كل الذين يمثلون أمامها إلى لاجئين غير مرغوب فيهم. الفلسطينيون يتذوّقون الإذلال أحياناً لمرات عديدة في اليوم الواحد، ويلعبون دور اللاجئين في بلدهم الأصلي». وقال عن الفلسطينيين بأنهم يمثلون حالة اليأس الذي لا يُهزم. الكتابة عبر النوعية ووفق هذه الشخصية وروحها ورؤيتها للعالم، تبدو كتابات جون برجر عبارة عن أعمال نوعية، توثيقا ونقدا ورسومات، وخيطا روائيا يصيغ الحكايات، فالخيال دوماً هنا يرتبط بالوقائع، ماذا حدث وكيف، والأهم محاولة فهمه، ربما يمكن تجاوزه. نلحظ ذلك في العديد من أعماله. الملك لم يضع برجر اسمه على هذا الكتاب، فقط يبدو عنوانه «الملك»، ويُعلل الرجل ذلك بقوله «لقد استمتعت بالاستماع إلى كلام المجهولين الذين لم يُسمَع كلامهم، لذلك لم أوقِّع هذا الكتاب أو أضع اسمي عليه». ويدور الكتاب/الرواية عن مجموعة صغيرة من المُشردين، عديمي المأوى الذين يعيشون في ساحة خالية بالقرب من الطريق السريع، بين القمامة والكائنات البرية، والآلات الهالكة. ولا يكون هذا الملك سوى (كلب) تدور على لسانه الرواية التي تتحدث عن يوم كامل في حياة هؤلاء، يعيشون بين نفايات مجتمع استهلاكي، وكأنهم نتيجة خطاياه التي لن تُغتفر. من عايدة إلى كزافييه ومن خلال تقنية الرسائل المتبادلة تدور حكاية رواية «من عايدة إلى كزافييه»، كزافييه المتهم بتكوين خلية إرهابية تخطط للقيام بعمليات تخريبية لإثارة البلبلة وزعزعة النظام. هو محتجز في الزنزانة رقم 73، حيث يمضي عقوبة السجن مدى الحياة. لتتواتر خطابات عايدة إليه، ويأتي رده كمحاولة منهما لمواجهة ما يحدث. فتغدو الكتابة «حواراً بين السجناء وآخرين يشبهون الأحرار، ذلك أن وجود السجن يحوّل ما خارجه إلى سجن آخر». يبدو كزافييه وحبيبته رمزاً لكل المناضلين في أي زمن ومكان، فكرة تصنيف الموصوف بالإرهاب وسجنه وفق النظام السياسي القائم، وأيهما الذي يستحق هذا الوصف، المناضل في سبيل إرساء بعض من الإنسانية، أم نظام قمعي لا يعرف سوى معنى وجوده. الاحتفاء بالوجود ورغم كل ما رآه الرجل، وحاول التعبير عنه والانتصاف له، إلا أن إيمانه بالإنسان وأحقيته في حياة تصل إلى تسامي وجوده، كان هو الشاغل الأعمق في فكر جون برجر، دون أي فجاجة لفظية، وعبارات كالمنشورات السياسية العقيمة. ونختتم بهذه العبارات التي نراها في قمة الثورية، لأنها تحتفي بالإنسان ووجوده، باحثة عن وجهه ووهجه الحقيقي، عن معناه، وإن تمثلت هذه الحقيقة بلاغياً في الاختفاء، «إن الجسد الإنساني يتّصفُ بالشجاعة، وبالحُسن، والميل إلى العبث، وبالكرامة، وبخِصال أخرى لا حصر لها، لكنّه أيضاً مأساوي في جوهره – وهو ليس جسد حيوان ليس هناك حيوان عارٍ إن الرغبة تتوق إلى أن تقي الجسد المرغوب من السِمة المأساوية التي يجسّدها، وزيادة على ذلك هي تؤمن بقدرتها على فعل ذلك. هذا هو معتقدها.. الرغبة تعِدُ بالحصانة. لكن الحصانة ضد النظام الطبيعي الموجود تُعادِلُ الاختفاء. وهذا بالضبط ما تقدِّمه الرغبة، في ذروة نشوتها: فلنختفِ». (من نص جانب آخر من الرغبة). بيبلوغرافيا جون برجر كاتب بريطاني وناقد فني ورسام وروائي، تعتبر كتاباته من أهم الكتابات النضالية على مستوى الفكر واللغة. من مواليد لندن عام 1926، وتوفي في باريس 2017. لم ينتهج تعليماً نظامياً أو أكاديمياً. بدأ حياته الفنية في مطلع الأربعينيات من القرن الفائت، بالاشتراك في عدة معارض فنية في لندن، ثم اتجه للنقد الفني في الخمسينيات، وأصدر روايته الأولى عام 1958 بعنوان «رسام من عصرنا»، تحكي قصة حقيقية عن اختفاء رسام مجري. ومن أعماله «هنا حيث نلتقي»، «طرق الرؤية»، «طريقة أخري للحكي»، «المنفى»، «الهجرة»، «زوال عالم الفلاحين»، «الليبرالية الجديدة»، «الملك»، «نجاح بيكاسو وإخفاقه»، «من عائدة إلى كزافييه»، ورواية «جي» التي حصلت على جائزة بوكر عام 1972. وقد استخدم نصف المبلغ الذي تسلمه فأنتج مع المصور السويسري جان موهر، كتاب «الرجل السابع» عن العمال المهاجرين في أوروبا، أما النصف الثاني من المبلغ فأهداه إلى حركة «الفهود السود» في الولاياتالمتحدة. الجوائز: جائزة بوكر الأدبية، جائزة الجمعية الوطنية للنقاد السينمائيين لأفضل سيناريو. كما تم ترشيحه لنيل جائزة نيوستاد الدولية للأدب.