يجد الزائر لورشة محطة مترو الأنفاق بساحة “الشهداء” في العاصمة الجزائر، بقايا آثار تعود إلى الآلاف من السنين أي إلى الفترة الرومانية والبيزنطية، إضافة إلى مسجد “السيدة” ويسمى أيضا مسجد “الملوك والعلماء” والذي هدمه الاستعمار الفرنسي عام 1830 بسبب إشاعة، وبعد قرابة قرنين من الزمن كشفت أشغال لمترو الأنفاق عن هذا المعلم الديني والكنوز الأثرية. وتتواصل بنفس المكان منذ العام 2013، حفريات وعمليات تحليل لهذه الكنوز الأثرية من قبل خبراء بالتزامن مع أشغال إنجاز محطة المترو. وتمكنت عمليات الحفر، التي تمت بالشراكة بين المركز الوطني للأبحاث في علم الآثار والمعهد الوطني للبحوث في علم الآثار الوقائي بفرنسا، من اكتشاف مواقع أثرية تعود إلى القرن الثاني وأروقة رومانية وأرصفة فسيفساء لإحدى الكنائس القديمة تعود إلى القرن الخامس ومقبرة بيزنطية كبيرة تحتوي على 71 قبرا تعود إلى القرن السابع. كما تتضمن هذه الكشوفات الأثرية من تاريخ الجزائر الحقبة العثمانية لا سيما من خلال آثار مسجد “السيدة” (سابقة للقرن ال16) فضلا عن الأرضية المبلطة “لبيت المال” (مقر الخزينة العمومية) اللذين تم تهديمهما سنة 1832 في بداية الاستعمار الفرنسي. وقررت السلطات الجزائرية إنجاز متحف أثري يضم هذه الكنوز داخل محطة المترو، من المنتظر أن يدخل حيّز خلال الخدمة العام المقبل. وقال سمير عميروش، من المركز الجزائري للبحوث الأثرية، إن “مساحة محطة المترو تم تقليصها إلى أكثر من النصف، لتصبح ألف متر مربع، بعد أن كانت قرابة 3 آلاف متر مربع في أعقاب اكتشاف هذه الآثار، وذلك من أجل إنجاز المتحف”. وأضاف “البحوث متواصلة للوقوف أكثر على هذه الكنوز الأثرية، ومنها مسجد السيدة الذي لم يبقَ منه سوى قاعدة الصومعة التي تم هدمها، وقاعة صلاة بجوار مكان بيت المال (خزينة المال في العهد العثماني) إلى جانب شبكة أحياء عريقة تعود إلى العهد العثماني أيضا”. وقال فريد إيغيل إحريز، مدير المركز الوطني للأبحاث في علم الآثار، إن هذه الحفريات تشكل أهم ورشة بحث أثري تمت في الجزائر، وقد سمحت بتكوين فرق من علماء الآثار الجزائريين القادرين على القيام بعمليات خاصة بعلم الآثار الوقائي بشكل “مستقل تماما”، مشيرا إلى أن الآثار المكتشفة خلال هذه العملية الأولى ستتم إعادتها إلى مواقعها الأصلية تحسبّا لافتتاح محطة المتحف. ومنذ اكتشاف هذه الآثار يتداول المؤرخون والباحثون في الجزائر عدة روايات عن مسجد “السيدة” بسبب مكانته لدى الحكّام في العهد العثماني (1516/ 1830) وسط غموض حول فترة إنجازه وكذلك أصل تسميته. وفي وصفه للمسجد خلال بحث نشره منذ أيام، قال فوزي سعدالله، الباحث في التاريخ الجزائري إن الجامع كان “حنفي المذهب، يصلي فيه مَن كانوا يوصفون بالأتراك من باشوات وآغوات وريّاس البحر ورجال عِلم وعامة الناس في المدينة، وتميّز طيلة قرون عن غيره من المساجد والجوامع في العاصمة الجزائرية بشساعته وجماله ورونقه وأيضا بمجاورته للقصر الملكي في العهد العثماني”. وعن تاريخ بنائه يوضح نفس الباحث “ثمة اعتقاد يجمع بين أغلب مَن درسوا تاريخ مدينة الجزائر وعمرانها، وهو أن جامع السيدة سابق لدخول الأخوين العثمانيين خيرالدين بربروس وعروج (وهو بن أبي يوسف يعقوب التركي، قبطان وأمير مسلم اشتهر هو وأخوه خير الدين بجهادهما البحري) إلى الجزائر عام 1516 وهو تاريخ بداية الحكم العثماني للبلاد”. ومن جهته يذكر المؤرخ الجزائري محمد بن مدور أن “هذا المسجد بُني في فترة حكم قبيلة بني مزغنة البربرية للجزائر في القرن العاشر الميلادي (سنة 970) من قبل سيّدة ثرية أطلق عليه اسمها بعدها”. وتابع “لكن العثمانيين بعد دخولهم اعتنوا بهذا المسجد وأدخلوا عليه تحسينات وأصبح مسجدا للحكام والدّايات بسبب تواجده بالقرب من قصور هؤلاء الحكام”. أما المؤرخ الجزائري بلقاسم باباسي، فيشير في روايته إلى أن هذا المسجد بني من قبل الحكام العثمانيين بعد دخولهم الجزائر. وأوضح أن “أصل تسمية السيدة التي أطلقت على المسجد، يعود إلى امرأة ثرية قدمت مع العثمانيين إلى الجزائر وحين همت بمغادرة البلاد وَهبت أموالا لبناء أجمل مسجد يخلدها بالعاصمة الجزائر”. وتتقارب هذه الرواية مع تلك التي قدمها الباحث فوزي سعدالله، بأنه “لا يُعرف شيء عن السيدة التي يُنسَب إليها هذا الجامع، وكل ما يشاع عنها هو أنها امرأة مُحسِنة من ثريات المدينة تكرَّمت بإنجاز هذا المعْلَم العمراني الديني”. كما يتم تداول عدة روايات حول سبب هدم هذا المسجد من قبل الفرنسيّين بعد غزوهم البلاد عام 1830 وتم بعدها ردم المكان وتحويله إلى ساحة عسكرية قبل أن يبني الفرنسيون مكانه فندقا سمي “لاريجونس” ليُهدم بدوره بعد استقلال البلاد عام 1962 ويتحول المكان إلى محطة للحافلات. ويقول سعدالله “الشائعات هي التي قضت على جامع السيدة وأنهت وجوده إلى الأبد.. كان يُهمَس في أذن الجنرال كلوزيل (قائد الغزو الفرنسي على العاصمة الجزائر) خلال الأشهر الأولى لاحتلال فرنساالجزائر، بأن تحت أرضية جامع السيدة توجد كنوز ثمينة مدفونة منذ زمن طويل.. وكانت هذه الشائعات وراء قرار الجنرال مباشرة الحفريات مطلع أبريل 1831 داخل هذا المعلم”. ووفق المؤرخ محمد بومدور فإنه “مع دخول الفرنسيين إلى الجزائر العاصمة بلغ إلى مسامع الحاكم كلوزيل حديث وشائعات عن وجود كنز في مكان ما تحت المسجد وفي 16 أغسطس 1830، أعطى أمرا بغلقه وشرع الفرنسيون في البحث عن الكنز المزعوم”. واستطرد “عمليات البحث كانت تتم بطريقة همجية أين تم العبث بأعمدة وأسس المسجد بشكل ساهم في هدمه تدريجيا”. ومن جانبه أكد المؤرخ بلقاسم باباسي هذه الرواية، وأوضح “الفرنسيون لجأوا إلى حرق دعائم المسجد الخشبية لصلابتها وخاصة الصومعة بشكل أدى إلى سقوطها وهدم المسجد”.