تتوفر في فيلم «عين في السماء»، للجنوب افريقي غافين هوود، كل العناصر التي تحقق النجاح الفني، لكن عنصرا واحدا يفتقد اليه. يكاد العمل أن يكون الفيلم الأول من نوعه المكرس تماما لاستكشاف أبعاد وتداعيات استخدام «الطائرات المسيرة» (او الطائرات بدون طيار DRONES»)، كسلاح فعال. ويتناول القضية من منظور أخلاقي في المقام الأول، وتلك هي اشكاليته الكبرى، عبر قصة محكمة، جيدة الصنع، يدور الشطر الأعظم من أحداثها في فضاء سينمائي أقرب إلى المسرحي. ومع ذلك، نجح كل من المخرج غيفن هوود والمؤلف غاي هيبرت في الإبقاء على عصب التوتر الدرامي مشدودا، حتى اللحظات الأخيرة من الفيلم، على الرغم من أن جزءا لا يستهان به من الصراع الدرامي يدور داخل غرف مغلقة، يعقد فيها كبار صناع القرار على المستويين السياسي والعسكري، مشتبكين في جدل معقد حول آليات اتخاذ القرار بين الضرورات العسكرية «الأمنية»، والتداعيدات الأخلاقية المترتبة عليه، فيما عقارب الساعة تدق على أعصاب الجميع مع اقتراب لحظة القرار، وفي الحالتين ستكون هناك تداعيات. في الفيلم ننتقل داخل غرفة العمليات في قاعدة عسكرية بريطانية، حيث تقود الكولونيل «كاثرين باول» عملية مشتركة مع المخابرات الأمريكية والقوات المسلحة الكينية لاعتقال مجموعة من الإرهابيين تابعين لجماعة «الشباب» الصومالية الإسلامية المتطرفة. نتابع الحدث الرئيسي وهو الاجتماع المرتقب للخلية الإرهابية عبر الأقمار الاصطناعية، من خلال كاميرات مراقبة سرية على الأرض يحركها عميل صومالي للمخابرات الكينية «جمال فرح». العملية تتم بالتنسيق مع وحدة أمريكية تدير طائرة مسيرة من القاعدة الأرضية، مهمتها كما تحددها «كاثرين» أن «عينهم في السماء» أي توجيه القوات الأرضية الكينية التي ستقتحم الموقع. العملية تتابع عبر الأقمار ايضا من خلال مركز قيادة في لندن، يضم كلا من الجنرال «فرانك بنسن» القائد العسكري الأعلى للعملية الذي يتولى توجيه القائدة الميدانية «كولونيل كاثرين»، وزير الدفاع، والمدعي العام المخول التحقق من المسوغات القانونية للعملية، ووزيرة أخرى ممثلة للحكومة مهمتها مراقبة تنفيذ المهمة الاستخباراتية، كما تم إقرارها من قبل رئيس الوزراء. مع كل خطوة يقترب فيها الحدث من الاكتمال باتجاه تنفيذ العملية، يستجد متغير مفاجئ يغير اتجاه الحبكة، ويضيف تعقيدا جديدا، ويرفع من حدة التوتر الدرامي والترقب الذي يستحوذ على اهتمام المشاهد على أفضل ما تكون تقنيات الإثارة الدرامية. وفور وصول أعضاء الخلية لحضور الاجتماع تطلب القائدة الميدانية من نظيرها الكيني استكشاف المنزل فيوجه العميل الصومالي على الأرض «جمال»، الذي يتنكر كبائع متجول ليدخل إلى السوق الشعبية التي يقع فيها المنزل بعد أن يخضع للتفتيش من قبل حراس مليشيا جماعة «الشباب». بمجرد دخوله يقوم بتحريك كاميرا سرية يحركها بالريموت. تتسلل الكاميرا للداخل. وحين تطلب كولونيل «كاثرين» تحريك الكاميرا لاستكشاف غرف المنزل الأخرى، نكتشف أن هناك حزأمين ناسفين يتم إعدادهما في الغرفة المجاورة. بناء على ما استجد تقرر القائدة تغيير طبيعة المهمة من اعتقال المطلوبين إلى قتلهم وهو ما يشعل جدلا حادا. الجنرال «فرانك» يستعجل قائده المباشر، وزير الدفاع، لأن نافذة الوقت المتاحة امامهم محدودة جدا، فإن لم تتم تصفية هذه الخلية سيخرج الانتحاريان لتنفيذ مهمتهما. تعترض الوزيرة بشدة لتغيير طبيعة المهمة، ومن ثم المسوغ القانوني لها، ويدعمها في ذلك المدعي العام. وزير الدفاع بدوره لا يستطيع حسم الأمر بمفرده، لأن القتل سيشمل مواطنا أمريكيا، كما أن العملية تتم على أرض دولة صديقة. لابد إذن من استشارة وزير الخارجية الأمريكي أولا، الذي يتضح أنه في زيارة للصين، وبعد نجاح الاتصال به في بكين، نجده منهمكا في مباراة تنس الطاولة مع نظيره الصيني، فينزعج بشدة لانتزاعه من مهمته «النبيلة»، مؤكدا أن الموافقة على العملية تمت من قبل وما استجد لا يغير من الأمر شيئا. فجأة يقع متغير جديد يعرقل التنفيذ في اللحظات الأخيرة، ويزيد الموقف تعقيدا. تظهر في الصورة فتاة في التاسعة من عمرها «علية» (عائشة تاكوم)، تحمل بضعة أرغفة انتهت أمها لتوها من خبزها لتبيعها في السوق. تنشر «علية» الخبز على طاولة في الشارع ملاصقة تماما للمنزل المستهدف وهو ما يجعلها في نطاق الهدف على نحو شبه مؤكد. يرجح ذلك كفة عدم تنفيذ العملية، ويقوي حجج الوزيرة المساعدة والمدعي العام، فيعود وزير الدفاع إلى تردده في اتخاذ القرار، فيقرر أن يلقي بالكرة في ملعب وزير الخارجية البريطاني، الذي يتبين أنه يفتتح معرضا لأحدث تقنيات الأجهزة الأمنية، فيتكفل مساعدوه بإبلاغه بالموقف المتأزم. هنا تصطدم الحبكة بعقبة جديدة – هزلية هذه المرة، وشر البلية ما يضحك- ينسحب الوزير فجأة من الافتتاح معتذرا عن إلقاء الكلمة بعد ان بدت عليه معالم إعياء مفاجئ، ويطلب من مساعديه الهرولة إلى الفندق فقد أصيب بتسمم غذائي جراء آخر وجبة تناولها على ما يبدو، وكان على وشك التقيؤ أمام الحضور وكاميرات الإعلام. في الفندق يستعرض الوزير الموقف مع نظرائه في لندن. وزير الدفاع يعرض عليه الخيارات المتاحة: إما التضحية بالفتاة أو انقاذ الفتاة والتضحية بالعشرات. ردا على اعتراض الوزيرة المساعدة، يسألها وزير الخارجية كيف سيكون بوسع الحكومة أن تواجه التداعيات السياسية إذا ما خرجت وسائل الإعلام تعلن أن عشرات الضحايا سقطوا في عمليتين انتحاريتين في كينيا على مرأى ومسمع من المخابرات البريطانية التي لم تفعل شيئا لمنعهما؟ فترد الوزيرة بأنها تفضل الدفاع عن موقف كهذا لا أن تدافع عن قتل القوات البريطانية طفلة بريئة في التاسعة من عمرها. ليس هذا هو الاعتراض الوحيد، فالقرار العسكري في حال اتخاذه يحتاج إلى مسوغات عملياتية أيضا. فقواعد الاشتباك تحتم في حال استهداف هدف في منطقة مدنية ألا يتجاوز حجم الأضرار الجانبية او «العرضية» نسبة خمسين في المئة. لكن الرقيب المكلف تقدير هذه الأضرار عبر برنامج كومبيوتر يضع التقدير عند 60 %، لكنها تصر على لي عنق الحقائق وتمارس ضغوطا على الرقيب (وكيف له أن يقاوم أوامر قائدته الميدانية الأعلى) ليغير من تقديراته حتى تتفق مع قواعد الاشتباك، وبوسعنا أن نرى تردده أمام إلحاحها، وعجزه في الوقت ذاته عن عدم إطاعة الأوامر. في البداية يتردد «ستيف» في الضغط على الزر حين يتم اتخاذ القرار للمرة الأولى، ويسأل القائدة الميدانية ما إذا كانت قد حصلت على موافقة الحكومة الأمريكية على اغتيال مواطن يحمل جواز سفر أمريكيا. وحتى مع تأكيدها له ذلك، يظل الطيار مترددا بل تتفاقم أزمة ضميره حين تظهر الطفلة بائعة الخبز في الصورة. وتلك هي نقطة الضعف الأساسية في الفيلم. إن مجرد تردد الضابط في ميدان المعركة في تنفيذ الأوامر أو مناقشتها، يرقى إلى مستوى العصيان في القوانين العسكرية والأرجح أن يعرض صاحبه لمحاكمة عسكرية. لقد نجح الفيلم في أن يجعلنا نتعاطف أو نتوحد مع موقف الوزيرة المساعدة والمدعي العام الذي ينتصر للجانب الأخلاقي برفض تنفيذ العملية، من خلال تسليط الضوء على حياة الطفلة. هذه العدسة المسلطة على الطفلة تمنح الضحية وجهها الإنساني، في حين أن ضحايا العمليتين الانتحاريتين يظلوا مفترضين، بلا ملامح أو أسماء. نحن نتابع مجموعة من السياسيين والعسكريين في نقاش محموم حول الأضرار الجانبية لإطلاق صاروخ واحد على منزل يضم مجموعة إرهابية، وماذا عن عشرات بل مئات الغارات التي تشنها الطائرات من كل حدب وصوب على مئات الأهداف في سورية والعراق وأفغانستان وليبيا لمحاربة الإرهابيين أيضا. وهذا هو لب الصراع على امتلاك مزاعم التفوق الأخلاقي.