لعل من الأسماء الشعرية التي استطاعت أن تلفت الانتباه إليها في المنطقة العربية الشاعرة والمترجمة اليمنية ميسون الإرياني، والتي صدر لها حديثا ديوانها الرابع بعنوان “حيل”، عن دار مخطوطات للنشر والتوزيع بهولندا. جاء في مقدمة الديوان التي كتبها الأديب اليمني عباس علي الديلمي "إن الشاعرة امتلكت المقدرة في توظيف الكلمة بقدر امتلاكها لحذاقة استخدام الرمز، بقدر امتلاكها لناصية اللغة ولهذا فقد عدلت عن التعليق على بعض القصائد وتعامل الشاعرة الذكي مع الرمز الشعري وتوضيحه لسببين إثنين: أولهما أن القصيدة قد تفسُدْ إذا ما شرحت أو تم التوضيح لما تعنيه بعض دلالاتها وإشارتها. أما ثانيهما فلأن إسهابي في الحديث عن الشاعرة والديوان، قد يعيق القارئ - لبعض الوقت - عن الولوج المباشر إلى عالم الشاعرة، وسعادة المتعبة بالإبداع". الديوان يضم 83 قصيدة من القطع المتوسط، والقارئ المتابع للشاعرة لن يجد اغترابا شعريا، نظرا إلى ذلك الاسترسال الشعري لدى ميسون الأرياني في النص، حيث أنها لم تحد عمّا رسمته من خط شعري في منجزاتها الشعرية السابقة. تتميز اللغة لدى ميسون الإرياني بالبساطة والعمق، فهي من جهة تتعمد أن تسلك طريق الاختزال اللغوي البسيط والفاتن، ومن جهة تحشو لغتها بجملة من الدلالات المفتوحة على ما قد تقترفه القراءة من ذنوب التأويل. تقول: القزم بالمرآة المعلقة في يده/ يرى المستقبل/ حيث يأكلني ظلي/ وأموت وحيدة/ أطفالي الشقر/ كيف ستخبئهم الملائكة/ في جنة النسيان/ لم أعد أهتمّ إذا ما تداعى العالم/ أو أكله قندس ما/ بحنجريه الكبيرين/ حين يغنيان لذات الغابة التي ستسرق أقدامي/ بعد أن أرمّمهما/ بسلم من خشب. للوهلة الأولى يشعر القارئ بغرابة الصورة وعدم تجانسها لأن الشاعرة تتخلى عن الفعل الحسي، وتذهب إلى التشكيل الذهني لترسم صورها الشعرية التجريدية مستعينة بالتجسيد أو التشخيص، مستعينة بالاستعارة والتشبيه والرمز لتشكيل صورتها الشعرية التجريدية. تقول الإرياني: حان الوقت/ يمكنني أن أموت هذه اللحظة/ الشوارع تتلهف الآن لمطر خفيف/ الدموع رغيف كبير لبرد العزلة/ حان الوقت/ لحرية تحمل شكل جثة/ جسد حرّ وفوضى/ قلب مسكوب عند ناصية/ خصلات كأنها ترقص. تبدو القصيدة عند الشاعرة اليمنية ميسون الإرياني تسجيلا حسيا، وإدراكا نفسيا وتصويرا تخيليا لما يدور حولها في الواقع الذي تعيش فيه، بحيث تتراوح الصورة بين المادية الصريحة والمعنوية المجردة، تثيرها عاطفة الشاعرة الحزينة، حزن غير مبتذل بقدر ما يتلحف باللغة، ليلبس كبرياءها وشموخها. إن الصورة عند ميسون الإرياني وليدة الوجدان وليست وليدة الرؤية أو المشاهدات العادية، هي انعكاس لدواخل الشاعرة وتوق إلى الانعتاق، بحيث جاءت تجسيدا لعمق الوجع “الدموع رغيف كبير لبرد العزلة/ حان الوقت لحرية تحمل شكل جثة”. وهي (الصور) ليست استعراضا لغويا بقدر ما هي تفاعل واع مع والواقع، وما ينتجه من معاناة وكذلك من قناعات الشاعرة: البعبع وضع دجاجتي في الحوض/ غسلني من اللعب/ أمي بكت/ وأخواتي/ حين لم أبك/ ولم تعد لي يدان/ ثمة جنود خرق وشرهون/ لا يعرفون عدوّهم/ يلاحقون الوقت/ ويشترون الأقنعة. حركة متنامية ثمة حركة متنامية تخلق الصورة، تمرّ عبر ذات الشاعرة “البعبع وضع دجاجتي في الحوض، غسلني من اللعب”، لتتفاعل مع الآخر “أمي بكت، وأخواتي”، لتلامس الواقع “ثمة جنود خرق وشرهون، لا يعرفون عدوّهم” وتجسّد تعاسة الواقع. الحقيقة أن هذا المرور (ذات الشاعر/ الآخر/ الواقع) الذي تشكله الشاعرة بطعم الحزن اللذيذ، يرسم الكثير من الصدق، الذي يفضي بدوره إلى جماليته الخاصة النابعة من ذاته، وليست بالغريبة والساقطة عليه؛ فالقصيدة لدى ميسون الإرياني “تعبير غير عادي عن عالم عادي” كما يقول جان كوهن، وهو أمر لا يتمّ إلا من خلال تحويل المشاعر إلى كلمات، حتى يُخلق الشعر عبر تلك المجازات المشكلة. الأمر الذي يكسب القصيدة حساسيتها المرهفة والنابعة من صدقها، على الرغم من متانتها المبنية على عمق هذه الصورة وجماليتها. الشاعرة اليمنية ميسون الإرياني لا تكتب شعرا بل “تنزف بؤسا” كما تقول: أنا لا أكتب كلاما/ أنا أذرف بؤسا/ أبعثر خاصرتي في المكان/ أبحث عنك. تتعلق الشاعرة بالحب لتركل قبح عوالمها، وتؤسس عالما مغايرا لواقعها، فعلى الرغم من مسحة الحزن والرمز المتعلق بواقعها إلا أن الشاعرة تخلق واقعا آخر من الشعر والحب: بكل ما يمكنني/ سأصنع تنينا/ لحراسة العالم/ أجلب عينيك/ يقولون إن النجمة جناحان/ مضمومان على قلب السماء/ هات نهرا/ المجرى بذرة المعركة/ القلب رمح/ هذا جيّد بما يكفي. تتخلص ميسون الإرياني من أعباء واقعها، لتتشكل القصيدة عندها غنية بالرموز وجمالية الصورة المشكلة، رغم أن القصيدة عندها تمتاز بالقصر وعدم الإطالة إلا أنها استطاعت أن تعبئها بالصورة الرمزية التجريدية، التي بيّنت قدرات الشاعرة ورسمت خطها الشعري الخاص. ميسون تستعين بالحب لتتخلص من قبح العالم وقيئه المستمر، تهبه عكاز الشعر لتخلق غابتها المتفردة. يذكر أن ميسون الإرياني هي شاعرة ومترجمة يمنية من مواليد 1987، درست الأدب الإنكليزي في جامعة صنعاء. وتعمل في الصحافة. صدر لها دواوين “الموارب من الجنة” و“مدد” و“سأثقبُ بالعاشقين السماء”.