الثقافة عالم من حياة أخرى, يتمتع فيها المثقفون وعامة الناس لأنها تمنح آفاق النظرة البعيدة لتفسير نواحي المجتمع. لذلك يهتم الجميع بالتزود فيها. فهي ليست حكرا على مجموعة ما. هي في متناول الجميع. لكن الملاحظ الآن رغم وفرة المؤلفات الورقية والالكترونية الا ان هناك احساسا بفراغ ثقافي هائلا ينذر بخطر كبير ستكون نتيجته العزوف عن التواصل والاستمرار في الانتاج الثقافي المتميز. ببساطة هناك غربة ثقافية يمر فيها المثقف العراقي بشكل خاص والعربي بشكل عام، نتيجة عدم انتظام الجو الثقافي بسبب تداخلات كثيرة وكبيرة. أولها الشعور بالتهميش والاقصاء للمثقفين الحقيقيين وبروز طبقة الطفلية الثقافية على السطح، بل اعتلائها المنابر والمحافل دون خجل أو وازع من الاهتمام بما ستؤول عليه مستوى الثقافة ونتاجها. أن تلك المؤشرات أفرزتها مجمل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حصلت في المنطقة نتيجة التغيرات الدراماتيكية التي عاشتها تلك الشعوب والمستمرة لحد الآن. إن التغيير مطلوب ومرغوب لكن بشرط أن يحدث بحسابات تخدم المرحلة وناسها..لا أن تخدعها وتهزمها، تحت شعار أنتشر بشكل كبير بل عمم على كل دول المنطقة وانتقلت عدواها بشكل مريع ومخيف. الفوضى الخلاقة... وحمى ذلك المرض السرطاني صار سلوكا جمعيا لدى الناس. من خلال عدم الشعور بالمسؤولية الانسانية اولا ثم الوطني، والذي يبدأ من قمة هرم السلطة الى أبسط انسان.. وهنا المشكلة! لكن الحل كما تعودنا تاريخيا يأتي من طليعة المناضلين وفي مقدمتهم المثقفون الكتاب والادباء بشتى اختصاصهم لتبصير المجتمعات بما لهم وعليهم، ورفض الظلم الخنوع. لكن للأسف عندما تتشكل تلك الادوات في معامل الغير تكون النتيجة كارثية. والجميع يلاحظ كيف انتشرت ظاهرة الاثتيات سواء القومية او الدينية او الطائفية، والدفاع عنها تحت لافتة "أنصر اخاك ظالما أو مظلوما". عندها ضاعت الحقوق وساد الظلم بدل العدل، بقصد او بدونه. من هنا تتكون مشكلة الفراغ الثقافي الذي نتكلم عليه. وبمكن أن نسميها "حرية وقيد" هي حرية لكن مقيدة بأطر عديده تؤدي في نهاية المطاف الى سيادة الثقافة ذات البعد الواحد والتي غالبا ما تكون معتمة الوسائل والغايات. ويصفها الباحث الفرنسي دوما زيديه في محاولة لتحديد أبعاد هذه الظاهرة الخطيرة أربعة مقاييس: 1 الطابع التحرري: ويعني أن وقت الفراغ تحرير من بعض الالتزامات واختيار بعض الفعاليات، أي تحرير الفرد في ساعات محددة من بعض الأنشطة التي يجب القيام بها سواء اختارها أم لا، لينقله إلى أنشطة جديدة يختارها بملء إرادته وحريته. 2 الطابع المجاني: وهذا يعني أن وقت الفراغ لا يكون في خدمة أي هدف مادي أو اجتماعي، حتى عندما تضغط عليه الحتميات الاجتماعية، ولمّا كان وقت الفراغ يقابل وقت العمل، فإن وقت العمل يحيل وقت الفراغ إلى نشاط مجاني، وبالتالي دون فائدة مادية تذكر. لكن هذا الرأي لا يعتقد به إلا الفرد المنعزل عن العالم، لأنه من المتعذر أن لا يكون لوقت الفراغ هدف مادي أو اجتماعي. 3 طابع المتعة: وهو أن وقت الفراغ يقترن دوماً بالبحث عن السرور والمتعة، أو البحث عن حالة من حالات الرضى، وهو ما يقود المرء إلى وقت الفراغ. 4 الطابع الشخصي: حيث يرتبط وقت الفراغ مباشرة بالدفاع عن كمال الوجود الإنساني، ويتيح تحرر الفرد من الملل اليومي، وهو مرتبط بتحقيق الإنسان الكلي. حيث يولّد نمط الحياة المعاصرة مللاً يومياً يتوق الإنسان للتحرر منه. المعضله هي أزمة هوية وتغريب للانسان من خلال التمادي في تهميش القابليات الثقافية والاعتماد على هوامش الثقافة التي لا تتسم ألا بعناوين ساذجة وفكر سطحي, والثقافة التي تعتمد ثقافة السلطة, فالكثير من الكتاب المستقلين ينفقون من أموالهم الخاصة في طبع مؤلفاتهم، ودون تسويق. نحتاج أن يملأ هذا الفراغ الثقافي بمعالجات جوهرية؛ أولها تشحيص سبب العزوف الثقافي وقلة تأثيره رغم الوفرة، وثانيا البحث عن الوسائل الناجحة للمعالجة. ونعتقد أنه يمكن الوصول للحل من خلال إيجاد قيادات ثقافية واعية لما يدور، ومن نفس الوسط الثقافي على شرط ابتعادها عن الأطر المؤدلجة لفئة ما أو لسلوك ذاتي الذي لا يلتزم بنكران الذات.