قبل فترة بسيطة وفي أجواء المطر والبرد في عمان، استحوذت علي فكرة لكتابة قصة قصيرة حيث الشتاء يرتدي غالبا معطف الكتابة، ويستدعي بضبابه وغيومه وصرصرة رياحه ليلا الرغبة في مقارعة السطور ومصادقة اللغة هربا من الإحساس بالوحدة والبرد خاصة إذا كانت كتابة إبداعية. فكرت أن أكتب قصة بطلها شاعر معروف يعيش ظروفا مادية صعبة ويعاني هو وأسرته عوزا كبيرا، فكرت أن أجعل بطل القصة يطلب من حبيبته في يوم ماطر أن تأتي ويمشي معها تحت المطر حتى يستلهم قصيدة ويبعث بها إلى الجريدة ليأخذ مكافأته المادية. إلى هنا كانت مجرد فكرة ألحت علي في يوم ماطر إلى أن تحدثت إلى صديقة قديمة وسألتها عن شاعر كنا نعرفه أيام دراستنا في الجامعة، وسألتها لماذا اختفى فجأة بعد منجز شعري يتضمن عدة دواوين شعرية ومشاركات شعرية كثيرة في ندوات ومهرجانات وأمسيات عربية، أجابتني أنه ما يزال يكتب ولم ينقطع لكنه يبيع قصائده لهواة الشهرة وينشرونها بأسمائهم، وهو يتقاضى منهم مبالغ زهيدة تتكفل بمصاريف عائلته. وأوصتني بالطبع ألا أفشي هذا السر لأحد، وبالطبع ألغيت مشروع القصة التي كنت سأكتبها حتى لا أحرج صديقتي، لكنني شعرت بالأسى العميق تجاه ما يتعرض إليه الكاتب العربي من ظروف صعبة وكيف أن الثقافة هي آخر اهتمامات الشعوب العربية، فليست عاجلة مثل خبر تفجير أو اغتيال على الرغم من أنها الرافعة الضرورية التي تساهم في منع اغتيال أو تفجير وعلى الرغم من أن الكلمة تعادل في أهميتها وتأثيرها مئات القنابل والطلقات. بعد حديثي مع صديقتي فكرت في وظيفة الأدب التي درسنا عنها في الجامعات على أيدي أساتذة كبار، وكيف تعلمنا أن دور الأدب هو تعرية الواقع والكشف عن مفارقاته عبر إسقاطات إبداعية تضع الخيال يقف أمام وجه الواقع ويسلط على وجهه مرآة مكبرة، لكنني بعد اعتراف صديقتي عن شاعر يبيع قصائده من أجل أن يكسر تلك المرآة أيقنت أن الواقع أحيانا هو من يمارس التعرية، وهو من يفصح عن مفارقات الأدب ويتقمصها أيضا، ولا يكتفي الواقع المرير الذي يعيشه أغلب الكتاب العرب بتلبس وجدان الكاتب والسيطرة عليه، وإنما يحيل كل محنة إبداعية إلى محنة واقعية أملها الأكبر لجم فم الجوع. عندما عدت لفكرة القصة التي كنت سأكتبها، ومقارعة الوحدة التي يبعثها المطر وجدت أن المطر الذي يبلل الشوارع وأسطح المنازل والأشجار والمارة، وحواف النوافذ والشرفات لا يصل منه إلى الواجهات الداخلية من الزجاج والجدران إلا البرد حيث تشرب الحياة خارجا كل ما تستطيع ابتلاعه بشهية صيف حار وجاف، بينما في الداخل يقيم البرد وتتجمد الأطراف، وجدت بعد أن كنت متحمسة أن الكتابة عن أجواء المطر والطيران في الكلمات محض ترف لا يناسب الكاتب العربي الذي يعني له الشتاء بردا وتكاليف إضافية وليالي وحدة طويلة. ليس من جديد في الحقيقة في هذا الاكتشاف غير أن ضمير الكتابة المنفصل يضع الكاتب في اختبار مع الضمائر الأخرى المتصلة به، فكلما توهم أن الصورة التي يحاول الحفاظ عليها ضمن وظيفته في إحداث التغيير أو ترك أثر ما، يكتشف أن ما يحيط به من ذوات مرتبطة ارتباطا وثيقا به وغير معنية إلا بالعيش الكريم وليست معنية بالكتابة تجعله ينفصل عن وهم التغيير أحيانا ويلبس معطفا صوفيا لمواجهة البرد بملابس ثقيلة وليس باستعارات ومجازات لا تندف إلا الوهم من ثقوب الأسطح المكشوفة.