ثمة أدب جماهيري، يسعى لإرضاء القراء، ويكتفي بذلك، وثمة أدب رفيع، يسعى لإثراء المكونات الداخلية للجنس الأدبي، وبينهما جدل واسع، ومن الأدب الجماهيري، «أدب الرعب»، الذي لم يدخل حيز دائرة النقد الأكاديمي التطبيقي، حتى اللحظة، بسبب احتكامه إلى الجماهير والاكتفاء بإرضائهم. ماذا يمكن القول، عن تجربة، تجمع بين إرضاء الجماهير، وإثراء المكونات الداخلية للجنس الأدبي، في آن؟ هكذا يمكن وصف مجموعة «الدخلاء» القصصية للكاتبة الجزائرية سارة النمس، الصادرة عن دار فضاءات في الأردن عام 2013 وتضم ست قصص تجمع بين الأدب الرفيع والفانتازيا السوداء. في هذه المجموعة التي يطالعنا عنوانها بانفتاحه على عوالم واسعة من الإشارات، والدلالات، لا تفصح عن نفسها إلا بعد قراءة المجموعة، شرط ألا يخبرنا أحد أنها تزاوج بين السرد الرفيع والفكرة الممتعة، عدا ذلك تناص عجيب، مع أشهر قصص الرعب في العالم، لكن هذا التناص، يشبه أن تفتح نافذتك، وتسمح لكل رياح الأرض، أن تهب على بيتك، من دون أن تأخذك، أو تتأثر أشياء بيتك، أو تهتز لها جذورك، لكن تلك الرياح تضفي على أجواء منزلك، نسيماً ساحراً، لا يشوه معالم البيت، بل يزيده بهاء وبريقاً. هذا النوع من التناص اسميه «تناصاً متسامحاً». القصة الأولى في المجموعة، التي تضم 6 قصص، تحمل عنوان «القطة سيدة البيت»، تذكرك بقصة شهيرة لأشهر كتاب الرعب، في العصر الحديث، ه. لافكرافت، وتحمل عنوان «الجرذان في الجدران»، وقد تبادر إلى ذهني، أن الكاتبة تعمدت ذلك، في الفكرة ذاتها، كونها تشكل قالباً يبدو مألوفاً للقارئ، سوى أن الاشتغال على القصة، اشتغال سردي رفيع، وذو بناء رصفت أحجاره بعناية وإحكام. في القصة الثانية وقد حملت القصة اسم «انتحار شاب طموح» نجد أسطورة «إيكاروس»، فإيكاروس في الأساطير الإغريقية، يحاول أن يطير بجناحين من الشمع، تذيبهما الشمس، أثناء طيرانه، وبالمثل نجد بطل القصة لسارا، «هشام» يفعل ذلك، فتفضح طموحه فكرة الانتحار، وتتصدى لها عبر «هندسة غير أرضية» كما يسميها لافكرافت، و»الدخلاء» كما تسميهم الكاتبة سارا. أما في قصة «في غياهب الشهوة» فكان الدخيل في هذه المرة مختلف، ويشبه أن يعيش أحدهم داخل سجن، فناء السجن محكوم بإضاءات وكاميرات عديدة، تجعل السجين يفكر فيها طوال الوقت، وبعد حين يصبح رقيباً على كل ما يفعله، فلا يفكر في الخطأ مطلقاً، فالرقيب يعيش في رأسه، ويلازمه، وحين يغادر السجن، تحاصره لعنة الكاميرا والإضاءات المتحركة، وفي قصة سارة نجد أن الفتاة «هند» تلاحقها لعنة الضمير، والعادات والتقاليد، وقد حددت الكاتبة موطن القصة، وهو شمال اليمن، كأكبر دلالة على أكبر مكان قد تسيطر عليه العادات والتقاليد، فيما يخص المرأة، في العالم، فحتى عندما لا يراقبها أحد لتفعل ما يحلو لها، تجد رقابة العادات والتقاليد، تفعل بها العجب، وتعيش معها في رأسها، وتعاقبها أيضا في غياب العائلة والقبيلة، وبشكل لا يصدق. وربما كان الدخيل في هذه القصة، هو الشعور بالذنب، والشعور بالذنب نوع من أنواع التحول، تحول الذهن إلى قاعة محاكمة، شرطة، ومتهم، ونيابة، ولائحة اتهام، ومحامٍ، ومدعٍ، وشهود، وقضاة… أشبه برواية المحاكمة ل»كافكا». الرعب في هذه القصص ليس من أجل الإمتاع، بل يصور الحياة ورعبها، بكل ما تحتويه من أفكار، أو اسميه بما تحتويه من كاتلوغات للعادات والتقاليد، والثقافة السائدة في المجتمعات العربية، سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، وثقافياً واجتماعيا. حين تكتب سارا، تلتقي في طريقتها السردية، مع الفلاسفة حين يذهبون من العام إلى الخاص، أو من الكلّي إلى الجزئي، وتشبه هذه القصص أيضاً في بنائها العام بناء القصيدة الجاهلية «المعلقات» لولا أن المعلقات لها وحدة عضوية وليس لها وحدة موضوعية، في حين أن الوحدتين العضوية والموضوعية موجودتان في قصص سارا.. الدخلاء في قصص المجموعة الست، ليسوا سوى معادِلات موضوعية، فالرعب ليس غاية وإنما وسيلة، وبهذا يكون قد تحقق التجريب الأول للكاتبة، من حيث مزاوجتها بين إغناء المكونات الداخلية، لغوياً وفلسفياً، ثم إضافة عنصر له عشاقه ومحبيه، وهو ثيمة الرعب. إيقاع قصص المجموعة السردي متناغم جدا، والحبكة مدروسة بعناية، أما الراوي فقد اتخذ عدة أشكال، وهو تجريب آخر إلى حدٍ ما، فحيناً تستخدم القاصة تقنية «الراوي البطل/ السارد العليم» وحيناً تقنية « the first observer «، وحيناً تقنية «الراوي المشارك»، وحيناً «الراوي الراصد»، وحيناً تزاوج بين وظائف أولئك جميعاً في شكل واحد، يمتزج كلياً مع ثنايا اللغة، ومبنى القصة عموماً ليصنع هالة جمال وإدهاش واسعة وإلى حد الخوف. تلك التقنيات السردية خاصة بالرواية الحديثة والتجريب الآخر للكاتبة عدا تجريب المزج بين تقنيات السرد هو الشكل السردي للقصة، فهو يقترب إلى حدود الرواية بما تقدمه القاصة من تفاصيل في الجزء الأول من القصة لتنتقل بك بطريقة الرواية من ثم إلى عالم خاص يشبه أن يتحدث أحدهم عن أوهامه ويلزمنا جميعا أن نحترم تلك الأوهام، وقلّما تخلو بقعة من بقاع المعمورة منها والشغف والاستمتاع بها فحتى الأشياء التي لا يفهمها العالم يصفق لها. لقد قدمت الكاتبة صورة كاملة للشذوذ النفسي الذي قد يعانيه الناس من خلال أبطالها الذين ليسوا سوى نموذج له امتدادات واسعة في الحياة وتمثّل هذا الشذوذ النفسي في عقدة المازوكية التي يعانون منها، فلا أحد منهم ترك ما يؤرقه، بل كان متلذذا بما يعذبه ويرعبه، رغم رؤيته لعلامات كثيرة تحذره، كما في أول قصة «القطة سيدة البيت» وقصة «انتحار شاب طموح»، وهي ذاتها العقدة النفسية التي يعانيها قراء وعشاق أدب الرعب، فرغم خوفهم من عالم «الدخلاء» إلا أنهم لا يجدون اللذة والمتعة إلا في هذا العالم. النهايات التي تختارها الكاتبة سارة لأبطالها متفائلة وجميلة، وليست مأساوية، كما هو حال أغلب قصص الرعب وأفلامها، فيبدو الأمر وكأن الرعب في القصة له مهمة إيصال رسالة فقط. آخر ما يمكن قوله عن المجموعة الجميلة المرعبة « الدخلاء» أن الجمال الذي وجدته فيها يشبه الجمال المخيف الذي تحدث عنه إيمانويل كانط حين قام بتصنيف طبقات الجمال ومراحله جانحاً بالنفسي مجنح الرياضي مصنفاً «الحلو، الحسن، الجميل، الجليل»، الأول يُلِّذُ والثاني يُسرُّ والثالث يبهج والأخير مخيف.. كيف يصبح الجميل مخيفاً؟ يقول غوته: «ربما استطعنا أن نتحمل الجمال الذي يرعبنا بسموه وأبعاده». عندما نتأمل الجميل نفرح له، ونتمنى امتلاكه، لكنه عندما يكون كثيفاً متعدداً متنوعاً، فإنه يُشعرنا بالفوات والعجز عن اللحاق به، فنأسى لأن الزمن، الذي هو عنوان الفناء، سيمحو الفرصة التي نعاود بها الجمال الجليل، فنشعر بأن بيننا وبينه هوّة الموت.. فنرتعدُ فرقا. ...... ناقد يمني