لن يختلف الأمر كثيراً عن مجريات المشهد العام في الدورة الفائتة. «مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ» يُحاول منذ أعوام مديدة أن ينهض من كبوةٍ مُلمِّة به، جرّاء انهيارات كثيرة يتعرّض لها المهرجان نفسه على مدى أعوام متتالية، كما يتعرّض لها البلد برمّته، في السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد والإعلام. المآزق عديدة. المحاولات الهادفة إلى انتشاله من فوضاه جدّية وحقيقية، وإن يكن عددها قليلٌ، كعدد القائمين بها. إدارته تتجدّد كل دورة، وإن يبقى فريقُ عملٍ متكاملٍ المُساعدَ الأساسي لمدراء معينين لأسباب جمّة، قبل أن يقع الاختيار على أصحاب اختبارات سينمائية وثقافية تؤهّلهم للقيام بمهمّتهم هذه «على أكمل وجه، لكن ضمن المُتاح». تساؤلات في العام 2014، يُقدِّم سمير فريد دورة يُمكن وصفها بأنها «دورة تأسيسية جديدة» لمهرجان يتمّ إنشاؤه في العام 1976، ويُعاند أقداراً للبقاء على قيد الحياة، بعد دورات تنقله إلى مصاف المشهد الدولي. ماجدة واصف تتسلّم إدارة دورته ال 37، المُقامة في العاصمة المصرية بين 11 و20 تشرين الثاني 2015. تَعِد بجعلها نموذجاً لكيفية الاستفادة من الماضي، وللبناء على هذا كلّه من أجل تطويرٍ إضافي، قدر المستطاع. ذلك أن الصعوبات جمّة، والتحدّيات متأتية من آلية عمل السلطة إزاء فعل ثقافي فني كهذا. يُقال إن ميزانية الدورة هذه تُساوي 4 ملايين جنيه مصري (نحو 500 ألف دولار أميركي). هذا رقم متداول في دورات سابقة أيضاً. أزمة «انفجار» الطائرة الروسية في شرم الشيخ، في 31 تشرين الأول 2015 (المؤدّي إلى مقتل ركّابها ال 224 جميعهم)، مؤثّرة على تلبية ضيوف أجانب الدعوات الموجّهة إليهم. يتردّد أنهم، هم شخصياً، موافقون على زيارة القاهرة وحضور بعض أيام مهرجانها السينمائي، لكن وزارات خارجية بلدانهم تحول دون تحقيق رغباتهم تلك. يُنقل عن ماجدة واصف نفيها كلّ رغبة لديها في اللجوء إلى الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي ل «حلّ أي مشكلة». يُنقل عنها قولها إنها لا تريد أن «يُحسب عليه النجاح والفشل»، مشيرةً إلى أن أمراً كهذا «قد يضرّه عالمياً» ف «يُفهم الأمر بأن الدولة تستغلّ السينما في السياسة» («هافينغتون بوست عربي»، 10 تشرين الثاني 2015، نقلاً عن «الشروق» المصرية). التداخل بين السياسيّ والسينمائيّ في مصر قديم جداً. الغالبية الساحقة من النشاطات الثقافية والفنية مُقامة في ظلّ كلّ سلطة حاكمة. ميزانية كهذه «مُعيبة» بحقّ مهرجان له دورٌ فاعل قديماً، لكنه لم يعد واجهة حدث سينمائي مصري حيوي، بشقّيه الثقافي والفني، إزاء العالم، قبل المحاولة الجدّية لسمير فريد، وقبل الدورة الجديدة هذه لماجدة واصف. مهرجانات دولية محتاجة إلى أمن ومال وخطط ثقافية متكاملة. الاستعراض والسجادة الحمراء والأضواء والإعلام المرئيّ أدوات لا تصنع مهرجاناً، لأنها مجرّد جزءٌ وليس النواة. هذا كلّه يتطلّب، أساساً، أمناً ومالاً. ماجدة واصف تعي الأمر تماماً. لكن وضعاً عاماً تعانيه مصر يبقى خارج قدرة المهرجان على احتماله. مع هذا، تريد تنظيم دورة جديدة، وتريد إشاعة مناخٍ صحّي يتلاءم ومعنى إقامة مهرجان سينمائي، يرتكز على عروض ولقاءات وأجواء فنية متنوّعة. معظم الأفلام المختارة دليلٌ على رغبتها هذه. المشترك القول بعدم اختلاف بين الدورتين الحالية والفائتة عامٌ وأوّلي. منصبٌّ أساساً على بعض المشترك بين سمير فريد وماجدة واصف في مستويات شتّى، أبرزها اختبار العمل السينمائيّ، برمجة وسجالاً وتفعيلاً لدور الثقافة فيها. تجارب واصف معروفة، خصوصاً في إدارتها «بينالي السينما العربية بباريس» فترة طويلة. في مصر، لديها حضورٌ في أكثر من مهرجان. المشترك الآخر بين الدورتين قائمٌ في تفاصيل البرمجة وشكلها وأمكنتها. «دار الأوبرا» ومحيطها مقرّ الدورة الجديدة، كما في العام الفائت: المقرّ مريح كونه قابلٌ لاستيعاب الجميع، ضيوفاً ومهتمّين ومتابعين، على الرغم من حاجته الماسّة إلى «صالات عرض سينمائيّ»، بدلاً من قاعات المسرح بآلات عروضها البصرية المتواضعة. الدورة الجديدة واعدة بأفلام تنال إشاداتٍ جمّة بعد عروضها الأولى في مهرجانات دولية، وحصول بعضها على جوائز. هذا مؤشّر إيجابيّ يُضيف إلى المهرجان، ويمنحه تقدّماً ولو متواضعاً باتّجاه استعادة مكانته الدولية، المهتزّة إما بفعل فساد قديم ضاربٍ فيه، وإما بسبب التأثيرات الناتجة من الحراك الشعبيّ القائم في «25 يناير»، والتطوّرات المختلفة اللاحقة له. يبدو أن ماجدة واصف مهتمّة بجعل الأفلام المختارة لعرضها في المسابقة الرسمية أو في برامج موازية أداة لدفع «مهرجان القاهرة السينمائيّ» إلى واجهة المشهد العربيّ، المستمرّ في منافسة شديدة بين مهرجانات مُقامة في مدن عربية، أبرزها دبي ومراكش على المستوى الدولي. أفلام مُرشّحة لجوائز «أوسكار» في فئة أفضل فيلم أجنبي، وأخرى تنال جوائز دولية ك «السعفة الذهبية» ل «كانّ»، المُقدَّمة في الدورة ال 68 (13 24 أيار 2015) ل «ديبان» للفرنسي جاك أوديار مثلاً. أفلام خاصّة بأبرز عناوين سينما التحريك في اليابان، وأخرى عربية مفتوحة على أسئلة الذاكرة والتاريخ والهجرة والعلاقات الإنسانية، ك «الأوديسة العراقية» للسويسري العراقي سمير جمال الدين. الأرقام تقول بغنى في الكَمّ، والمُشاهدة المتوقّعة لبعض العناوين كفيلةٌ بقراءة النوع: نحو 100 فيلم معروض في برامج مختلفة، منها المسابقة الرسمية (16 فيلماً)، و «عروض خاصّة» (20 فيلماً)، ومهرجان المهرجانات (45 فيلماً)، وغيرها. اليوم الخميس، 12 تشرين الثاني 2015، تبدأ عروض الأفلام هذه في قاعات تابعة ل «دار الأوبرا» و «مركز الهناجر». تبدأ اللقاءات المنتظرة، والسجالات المفتوحة على كلّ شيء. تبدأ المشاهدات التي يعقبها تعليقٌ أو نقاش أو نميمة. تبدأ الجلسات المُقامة على هامش هذا كلّه. في اليوم نفسه، يخطو «مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ» خطوة إضافية، يُفترض تبيان معالمها في نهاية دورة محمّلة بأسئلة في السينما والثقافة والجماليات، كما في شؤون الإدارة والتنظيم والخيارات.