تنبني رواية مملكة الغرباء للكاتب اللبناني الياس خوري على مجموعة من المحكيات المتشابكة منها، عبر سرد لولبي تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة والشخوص، فوداد الشركسية اشتراها اسكندر نفاع كرقيق أبيض، وأعلن إسلامه من أجلها، وصار اسمه الخواجة محمد إسكندر نفاع، بعد أن ضبطته زوجته لودي معها في المطبخ، التي تعودت على تحرشه بالخادمات وكانت تتغاضى مقنعة نفسها بحقارة الجنس ووساخة الرجال، وفي السرير تتحول إلى لوح بارد. وعند مرضه تمنت لودي موته، منتظرة اللحظة التي تذل فيها الشركسية، وتطلب منها البقاء في البيت، وتعمل عندها كخادمة. عاشت معه نصف ممرضة ونصف راهبة، لم تكن تحكي عن شيء، لم يسألها أحد عن أهلها وبلادها، ولم تعد إليها بعد موته، بل بقيت تغسل ثيابه وتكويها وتعيدها إلى مكانها، وتفتح الخزانة وتكلم الثياب. في لحظاتها الأخيرة نسيت لغتها، لم تكن تعرف غير العربية. نظرت إلى جورج باحتقار حين اقترح عليها مأوى العجزة كي تودع فيه، كانت تتكلم بلغة أخرى، إنه موت اللغة (موتها الرمزي) يقابله ذلك الحنين المشتعل إلى الطفولة في الأيام الأخيرة، ذلك الحنين الذي يشتد كلما تقدم العمر. حسب ما فهمت ممرضة أرمينية، كانت تتكلم لغة قريبة من التركية، ولم تكن تتحدث سوى عن طفولتها في بلاد بعيدة، قبل أن تخطف وتباع كرقيق... وهربت من المستشفى في الصباح الباكر، لتسقط تحت الرصاص غريبة بلا ذاكرة، بعد أن استفاقت من غفوتها البيروتية . أما إميل آزاييف، فهو أول إسرائيلي يلتقيه الراوي في جامعة كولومبيا بنيويورك، وقد دعاه لحضور فيلم قصير عن وحشية الصهاينة في القدس. يعجب إميل بحكاية الراهب جرجي، لكنه اقترح على السارد تغيير قصة خطفه لليهودي حتى لا يتهم السارد- بمعاداة السامية، بيد أنه ينفي قصة الخطف، ويعتبر الحكاية مجرد بديل نفسي، حيث تقول الأشياء كي لا تحدث، وقد سمعها من مسنة فلسطينية، واعتقد أنها مجرد حكاية شعبية خيالية، لكنه فوجئ بخبر موت الراهب في جريدة أمريكية، حيث كان يعد بحثا أكاديميا عن الحكايات الشعبية الفلسطينية، وقرر زيارة قرية الراهب، بحثا عن الحقيقة. إميل هاجر أبوه من بولونيا إلى فلسطين، وبأسى يستحضر أخاه الذي أخذ إلى معسكرات الإبادة. وديع السخن باع كل شيء لجورج نفاع ليهاجر إلى إسرائيل، رغم أنه كان يرفض فكرة الهجرة، لأنه ضد المشروع الصهيوني، لكنه انهدم من الداخل حين هاجر ابنه موسى/ موشيه إلى إسرائيل. غادر بيروت ليموت غريبا هناك، بينما بقيت ابنته راحيل - التي تزوجت مسلما- في بيروت، لا تحدث أحدا عن أهلها. أخوها موسى هرب إلى اسرائيل بحثا عن الحرية والانطلاق، وليتحرر من التقاليد اليهودية الصارمة في البيت. لكن الأخت ستطلب مالا من جورج لتلحق بابنتها في باريس بعد موت زوجها، وكأن السارد يقنعنا بأن لا ارتباط عاطفياً لليهود بالأرض.. ثمة بحث عن المصالح وتحقيق الطموحات والاستقرار العاطفي، المتمثل في الأبناء/ الامتداد.. وليس مهما الاغتراب الموحش الذي ينخر الأرواح، فحتى إميل هاجر إلى نيويورك بحثا عن العدالة، التي لم يجدها في إسرائيل، فاصطدم ب الكذبة الأمريكية . طبعا هذه ليست الرؤية الوحيدة والأحادية في الرواية للمكان، لأنها رؤية شعب بلا وطن، وهذا ما تؤكده حكاية وداد، وهي الغريبة المخطوفة، لهذا نعتقد بأن السارد أعطاها مساحة أكبر، حتى ممن ماتوا في سبيل الوطن ومن حاربوا من أجله، مثل فيصل الذي اندس بين الموتى من أفراد أسرته كي يوحي بموته، وحين غادر المسلحون المخيم ركض في الشارع حتى وصل إلى حيث يتواجد الصحافيون الأجانب وأغمي عليه، وسامية وعلي وغيرهم كثير. كما انشغل الياس خوري بجماليات الكتابة، فهو ضد تقاليد الرواية التقليدية التي تنبني على الخيال، حيث تميل كتاباته إلى التوثيق، والبحث الميداني وتقصي حقائق الأحداث، ويستشهد بوجهة نظر أبيه المنتصر للأدب الكلاسيكي، حيث يجب أن يكون خياليا، وليس سرقة أفكار الناس،لأن الأديب ليس بائعا متجولا.. لكن السارد لا يخفي عن القارئ تخوفه من حكاية وداد، ويستحضر تجربة لقائه مع الكاتب سلمان رشدي، الذي رأى أن حكاية وداد تصلح مادة لرواية. وإن تساءل إميل مستنكرا: من قال بأن الأرض تورث كاللغة؟ ، فإن سلمان رشدي يؤكد للسارد أنه لم ينس لغته الأصلية كي يتذكرها، لكنه اختار الانكليزية بشكل واع، ويشعر بالسيطرة عليها. ويرى السارد أن حكاية الطبيب المتجول تشبه حكاية ثقوب الملاءات عند سلمان رشدي، وهما حكايتان من الواقع، لكن السارد يخشى الوقوع في كمين (أدب العالم الثالث) المستحيل التصديق. وتطفو إلى سطح السرد ثنائية الحكاية والأسطورة، الشفهي والتدوين، ويعتبر الراوي حكاية خطف اليهودي من نسج الخيال الشعبي، ويفكر في حذف قصة الخطف حتى لا يتهم باللاّسامية، والمقام يفرض الإشارة إلى أن لغة الياس خوري هادئة، سلسة، متدفقة، تنهل من الحقل الوجودي: الحرب، الوطن، الاغتراب، الوحشة، الخراب، الحب... وتبدو المرأة في مملكة الغرباء - بعكس روايات عربية شتى- فاعلة، حافزة، محركة، إيجابية، وليست مجرد جسد للمتعة، كما في كتابات الروائيين اليساريين، ولعل هذا يعزى إلى ظروف الحرب، التي تفرض على المرأة أن تدافع عن وطنها إلى جانب الرجل، والرواية تقدم مفهوما آخر لكتابة، فهي لا تمجدها كفروسية دونكيشوتية، بل ترى أننا: نكتب لأننا لسنا أبطالا(...)، والأبطال الذين نروي حكاياتهم لا يموتون ، فالجندي الفتي، الذي تبعته مريم، لترى ذلك الوهن الذي يكتسح العينين مع اشتعال الرغبة، تركته يموت وعادت، ويتساءل السارد عن معنى البطولة، لهذا تصير الكتابة ذورة الخيانة لهم عند العجز أمام الموت وأصوات القذائف: هكذا يبرر الأحياء خياناتهم للموتى ببعض الكلمات العاطفية التي لا معنى لها . ويختم السارد حكاياته بأن يضع القراء إزاء حكاية أخرى، مفتوحة، لم يكتبها، ربما لأنه لم يسدل عليها الستار بعد.. حكاية فلسطين التي تسحر بأسرارها وطلاسمها، وحين نستمع إليها لا ننام، بل نموت . ولقد وفق الكاتب/ السارد، المشارك في صنع الحدث- في تأسيس رواية جديدة، لا تغرق في تأثيث المشهد السردي، حيث يغيب الوصف والحوار تقريبا ويحضر السرد، مستخدما جملا تلغرافية، سريعة الإيقاع، وأن يتمرد على سلطة الراوي العليم، ودكتاتورية (الرؤية من الخلف)، موقعا القارئ في فخ الكتابة، ويكسر الجدار الرابع، ويجعل القارئ مشاركا في ملء الفجوات السردية، والرواية لا تهتم بتنامي الأحداث والشخوص وفق الأقانيم الأرسطية، بل تكشف عن العمق الدرامي والإنساني لشخوصها بطريقتها الخاصة، ويعتبر المكان الشخصية المحورية في الرواية، حيث تطغى الفضاءات الخارجية المفتوحة كمعادل جمالي للاغتراب والدمار الداخلي. ---- كاتب من المغرب نص تجريبي للتعليق