في السابع والعشرين من هذا الشهر، ستملأ نسخ رواية الكاتب الأميركي دان براون الجديدة "الرمز الضائع" المكتبات الفرنسية. ومن المتوقع أن يتهافت الفرنسيون على شرائها بقوة تماماً كما حصل في الشهرين الماضيين في الولاياتالمتحدة الأميركية وكندا وبريطانيا حيث وصلت مبيعات الرواية الى رقم قياسي، حيث تسجّل في اليوم الأول للمبيعات فقط مليون نسخة مبيعة في أميركا وحدها. فأسرعت دار "راندوم هاوس" الى طباعة 600 ألف نسخة جديدة إضافة الى الخمسة ملايين نسخة المطروحة في السوق منذ شهرين، وهو أكبر عدد تصدره هذه الدار منذ نشأتها. الحدث بهذا الحجم لأن دان براون حصد منذ روايته الماضية "شيفرة دافنتشي" شهرة عالمية، لأنه مضى ستة أعوام على صدور روايته هذه عام 2003. وكان من المتوقع أن تصدر رواية "الرمز الضائع" في العام 2005 غير أن الموعد تأجّل أكثر من مرة من دون أن يدلي براون بأي تصريح للصحافة، فبقي موضوع الرواية طيّ الكتمان ولم يتسرب أي تفصيل منها. وكانت الشائعات كثيرة منها وأبرزها أنه يكتب الجزء الثاني من "شيفرة دافنتشي" غير ان ذلك لم يكن صحيحاً. فإذا كان براون تطرّق الى موضوع لوحات الفنان دافنتشي وحاول أن يشرحها على طريقته لوحات هذا الأخير الدينية وحمّلها تأويلات هائلة أثارت غضب الكنيسة وبعض المعنيين بالموضوع مباشرة فإنه في "الرمز الضائع" يتطرق الى موضوع الماسونيّة. وما أن تسرّب الموضوع خطأ قبل شهر من صدور الرواية حتى صدرت سريعاً في الأسواق الأميركية بعض الكتب التي تعالج وإن بأساليب باهتة هذا الموضوع: "بناءوا سالمون" و"أسطورة الماسونيّة" و"101 من أسرار الماسونيّة" وأيضاً تجرأ أحدهم ليسرق العنوان أيضاً فأصدر "أسرار الرمز الضائع"، غير أن هذا لم يؤثر إطلاقاً على انتظار القراء بشغف للرواية. واليوم، ثمّة ظاهرة في أميركا، خصوصاً في واشنطن، المدينة التي يذكرها براون في الرواية، فهناك صرعات عنوانها: "الرمز الضائع": فمكاتب السفريات تطلق على رحلاتها تسميات مثل "رحلة الى واشنطن لانغدن"، كما أن "أوتيل دوبون" الشهير يقدم عرضاً مخفض السعر عنوانه "الرمز الضائع" ومهما كانت نظرة النقّاد الى الرواية في الأيام المقبلة لتقويمها أدبياً، فذلك لن يؤثر على مسيرة بيع الرواية التي ربما قد تتفوق على رقم مبيعات "شيفرة دافنتشي" التي وصلت الى 81 مليون نسخة. وننقل هنا بعض المقاطع من "الرمز الضائع" الى العربية: [ الفصل الأول: كان المصعد الكهربائي الخاص بالجسر الجنوبي من برج إيفل محشوراً الى درجة خوفنا من انهياره. وفي زحمة السيّاح داخله، كان رجلاً بملامح قاسية يركّز نظره الى الأسفل ناحية صبي يقف بالقرب منه. "يبدو لي أن لونك كثير الشحوب، يا صبيّ. وكان الأجدر بك أن تبقى في الأسفل". - كلا، أنا جيد، أجاب الولد الذي حاول أن يتخطى قلقه بصعوبة، وأضاف: لكنني سأنزل في الطابق التالي. فأنا لم أعد أقوى على التنفّس! إنحنى الرجل ناحيته. "إعتقدت أنك توصلت الى السيطرة على خوفك المرضي من الأماكن العالية أو المغلقة، قال له ذلك وراح يمرر يده على خده بعطف. غضب الولد من نفسه لأنه خيّب آمال والده، غير أن الصفير في أذنيه أصبح قوياً الى درجة لا تُطاق وسيطر على كل أفكاره. - لم أعد أقوى على التنفّس... يجب أن أخرج من هنا! غير أن مسؤول المصعد كان يخبر أموراً مطمئنة عن المكابس المتصلة ببعضها وعن تركيبة البرج الحديدية القوية. بعيداً في الأسفل، كانت شوارع باريس تبدو ممتدة وواسعة في كل الاتجاهات. ها اننا تقريباً قد وصلنا! فكّر الصبي وهو يرفع نظره ورأسه ليرى السطيحة التي وصلوا إليها. عليّ بالمزيد من الشجاعة! وفي الجزء الأخير من مسار المصعد، دخل المصعد بقوة داخل نفق عمودي. "أبي، لا أظن أن...". فجأة، بدأ يسمع مجموعة أصوات تشبه القرقعة فوق رأسيهما. واهتزت المقصورة بقوة وراحت تتأرجح بشكل غير مطمئن. بعض الأسلاك الممزّقة ضربت في الهواء مثل الأفاعي الغاضبة. مدّ الصبي يده صوب أبيه. "أبي!". تبادلا نظرة رعب لم تدم أكثر من ثانية. وكان السقوط. إستيقظ روبير لانغدن فجأة وقد هزّ كيانه هذا الكابوس، واتجه ليجلس فوق مقعده الجلدي. كان الراكب الوحيد على متن "فالكون 2000 آ.اكس"، طائرة الشؤون الفضائية التي كانت تمر في منطقة تحتوي على اهتزازات، وراح النفاثان لرد الفعل برات وويتني يرددان في الخارج: كل شيء على ما يرام... "سيد لانغدن؟" صرخ صوت أحدهم في الآلة التي تصله بالخارج. نحن نزيد سرعتنا في الهبوط. وقف لانغدن وراح يرتّب أوراقه في حقيبته الجلدية. كان غارقاً في نص محاضرته عن الرموز الماسونيّة حين بدأ يفقد تركيزه. وإذا هو حلم بوالده المتوفي، فهذا بالتأكيد بسبب الدعوة غير المنتظرة التي تلقاها في الصباح من قبل بيتر سالمون، مرشده منذ وقت طويل. إنه الشخصية الثانية في العالم التي لا أرغب في أن أخيب أملها... وكان الرجل المحب والمؤرخ ورجل العلوم البالغ 58 عاماً الذي أخذ لانغدن تحت جناحه زهاء ثلاثين عاماً واحتضنه بعد أن ملأ الفراغ الذي أحدثه رحيل الوالد. وكان لانغدن قد وجد أيضاً في بيتر سالمون التواضع ورحابة الصدر الذين لم يتخل عنهما على الرغم من ثروته الهائلة ومركز عائلته الاجتماعي المرموق. ومن الشباك الصغير، رأى لانغدن أن الشمس كانت قد غابت. ولكنه استطاع أن يلحظ ظلّ أكبر مسلّة في العالم التي كانت تنتصب فوق الأفق مثل عقرب ساعة شمسية قديمة. وكان النصب الرخامي الذي يبلغ ارتفاعه 170 متراً قد تمّ الحرص على بنائه تماماً وفق هندسة دقيقة جعلته وسط أكبر الشوارع والمباني التاريخية. وحتى من الفضاء، كانت واشنطن تبدو مالكة لسطوتها القريبة من الأسطورة. كان لانغدن يعبد هذه المدينة، وفي اللحظة التي لامست فيها عجلات الطائرة الأرض، شعر بخوف رهيب مما ينتظره على الأرض. وتقدمت الطائرة لتصل الى المنطقة المخصصة لها للتوقف في "مطار واشنطن دالز". بعد أن جمع أغراضه وشكر الطيارين، خرج لانغدن من مقصورته الفخمة ونزل درجات السلم. وشعر بأن هواء كانون الثاني البارد يريحه ويطمئنه. تنفس، روبير! وفكر بذلك وهو يسعد بلقاء الهواء الطلق الحرّ والمساحات الكبيرة. وكان غطاء الضباب يعطي ساحة المطار جواً وكأنها مستنقعاً ضخماً. سمع صوتاً مغناجاً يخترق الضباب. "صباح الخير! سيد لانغدن!". وحين رفع رأسه، رأى إمرأة أربعينية تحمل شارة على صدرها ودفتراً، وكانت تقرب منه مسرعة وهي تلوي ذراعها بفرح. كانت خصلات شعرها الأشقر تبدو من تحت قبعتها الصوفية. "أهلاً بك في واشنطن، حضرة البروفسور!". - شكراً، أجابها لانغدن بابتسامة. - أنا بام، من قسم خدمة المسافرين في الشركة، قالت ذلك بنبرة متعالية بعض الشيء. وإذا أردت أن تتبعني، فثمة سيارة بانتظارك. توجه الإثنان صوب نهاية الممر الذي كانت تخترقه بعض الأضواء المشعّة. هذه سيارات تاكسي للأغنياء والمشاهير! فكّر لانغدن. "عذراً على وقاحتي، قالت المرأة بخجل، ولكن هل أنت حقاً روبرت لانغدن الذي يؤلف كتباً عن الرموز والديانات؟". بعد لحظة من التردد، أومأ لها برأسه بالإيجاب. "كنتُ أكيدة من ذلك! في نادي القراءة الذي أنتمي إليه قرأنا كتابك حول الأنثوية المقدسة والكنيسة. ولقد أثرت واحدة من تلك الفضائح! كان ذلك هائلاً! لقد أثرت فعلاً الغضب! "لكنني لم أكن أقصد ذلك". وشعرت المرأة أن لانغدن لم يكن راغباً فعلاً بالمناقشة في عمله. "أنا آسفة. لقد أزعجتك. ربما أنك لم تعد ترغب في مواجهة الناس الذين يتعرفون إليك. لكن يبدو لي أن الغلطة غلطتك، قالت له، وهي تشير الى ثيابه بحركة وقحة. إن ثيابك تخونك". ثيابي؟ خفض لانغدن نظره: كان يرتدي واحدة من تلك الكنزات التقليدية ذات الياقة العالية وباللون الرمادي وجاكيت "تويد هاريس" وبنطلوناً عادياً وحذاء من صنف "الموكاسان" الجلدي. وكانت تلك بذلته التقليدية لمحاضراته والصور الرسمية وكل اهتماماته الاجتماعية. "كنزاتك الصوفية لم تعد على الموضة إطلاقاً، شرحت المرأة. كان يمكن أن تبدو أكثر أناقة لو ارتديت ربطة عنق". غير ممكن. فأنا لا أطيق العِقَد المتدلية! في المرحلة التي كان فيها لانغدن يعمل في "أكاديمية فيليبس اكزيتر"، كان مجبراً على ارتداء ربطة العنق ستة أيام على سبعة. وكان مدير الجامعة يصر على ربط أصل ربطة العنق الرومنطيقية بالشال الحريري الذي كان يستخدمه الرومانيون لتدفئة أوتارهم الصوتية، غير أن لانغدن كان يعتقد أن كلمة "كرافات" بالأجنبية لها صلة بعصابة "كرواتية" قديمة كانت تعقد منديلاً حول عنق المقاتلين في معاركهم. وبعد قرون من الزمن، صارت هذه المناديل المتحولة رمزاً للمقاتلين العصريين الذين يقودون معاركهم في صالات المحاضرات وكلهم رغبة دائماً بجعل اعدائهم يخجلون منهم. "شكراً للنصيحة اجاب لانغدن بابتسامة خفيفة. سأفكر فيها في المستقبل". ومن حظه ان خرج رجل من سيارة لينكولن فخمة والقى عليه التحية وكان يرتدي بزة رسمية سوداء داكنة. "سيد لانغدن؟ بيلتواي ليموزين. شارل في خدمتك قال وهو يفتح الباب، أسعدت مساءً سيدي وأهلاً وسهلاً بك في واشنطن". ترك لانغدن بخشيشاً لبام مقابل استقبالها الحار له قبل ان يجلس في المقعد الخلفي من السيارة الفخمة. اشار له السائق الى مكان ازرار التبريد والتدفئة وعرض عليه المياه المعدنية وسلة تحتوي على الفطائر الساخنة. بعد لحظات قليلة، غادرت اللينكولن المطار عبر طريق خاص. اذاً هذه هي تقاليد الاغنياء؟ بعد ان ازدادت سرعة السيارة، راح السائق ينظر في ورقة الطريق امامه، ثم اجرى اتصالاً. "هنا بيلتواي ليموزين، قال بنبرة محترمة، انفذ ما طلبته مني واتصل لأؤكد على اهتمامي بالراكب. ثم انهى كلامه بالتالي: اجل سيدي، ضيفك السيد لانغدن قد وصل. وسأعمل على ايصاله الى "الكابيتول" عند الساعة السابعة مساء. واقفل الخط. لم يتمالك لانغدن نفسه، فابتسم. دائماً هو دقيق للغاية... هاجس التفاصيل من الحسنات التي يتمتع بها بيتر سالمون لذا هو يدير له اعماله بارتياح كامل. كما ان امتلاك بضعة مليارات من الدولارات في حساب مصرفي أمر يسهل كل شيء... ارخى لانغدن جسده بلذة على المقعد الرخو واغمض عينيه وكان الضجيج الحاصل في المطار وراءه يخف شيئاً فشيئاً. كان "الكابيتول" يبعد قرابة النصف ساعة من المطار ما سمح له بالتقاط انفاسه لاعادة ترتيب افكاره. وكانت احداث النهار قد تسارعت الى درجة انه لم يتسن له بعد ان يفكر في السهرة الهائلة التي سيمضيها بعد قليل. قبل نحو 15 كيلومتراً من "الكابيتول" كان هناك شخص وحيد ينتظر بفارغ الصبر وصول روبرت لانغدن. [ الفصل الثاني: كان الرجل الذي اطلق على نفسه لقب "مالاخ" يضغط برأس الابرة فوق صلعته المحلوقة وكانت وخزات الابر المتكررة في لحمه تترك رعشات لذيذة لديه. وكان هو الآلة التي تقيس قوة الابرة على ايقاع الوخزات التي تترك مادة معينة في الجلد. انا تحفة فنية! وفن الوشم لا يسيء ابداً للجمال، اما هدفه فهو التغيير (....) وفي زمننا اصبح فن الوشم بمثابة التأكيد للانسان على قدرته على التغيير كما اعلانه هذا التغيير في مواجهة العالم بان يقول: انا لدي السلطة الكاملة على جسدي(...) . دقت ساعة الحائط الضخمة عند "مالاخ" وكانت تشير الى السادسة والنصف مساء. وضع كل الادوات من يده وغمر جسده العاري الذي يصل الى المتر وتسعين سنتيمتراً بعباءة حريرية من "الكيروس" ومشى في الممر بخطوات كبيرة. كانت رائحة البهارات اضافة الى رائحة الشمع العسلي تعبق في المنزل كله. وفي مروره، راح يتأمل التحف الايطالية الغالية الثمن- نقش ل يبرانيزي ومقعد من طراز ساونارول، وقنديل فضي من طراز بوغاريني. ومن دون ان يتوقف، القى نظرة وتأملية على المدينة المشعة في الخارج من احد شبابيكه الضخمة. ومن البعيد كانت قبة "الكابيتول" واضحة في مساء تلك الليلة الشتوية. انه يختبىء هنا.. انه مدفون في مكان ما هنا.. قليلون هم الذين كانوا يعرفون سلطته الهائلة.. كان يمكن اعتباره اكبر ثروة في تاريخ البلاد حتى اليوم. والاشخاص القليلون الذين كانوا يعرفون الحقيقة، يقنعونها وراء وشاح من الرموز والاساطير والاستعارات... وها هم الآن يفتحون لي ابوابهم (...) شعر بقوة سلطته وهو ينظر الى جسمه المنحوت نحتاً. اغلق عباءته واقترب من النافذة ليتأمل بهدوء اكثر المدينة الغامضة التي تمتد امام ناظريه. انه مدفون في مكان ما.. لكن كان عليه ان يركز اكثر على مهمته المستعجلة. جلس امام المرآة وراح يضع طبقة سميكة من الكريم الملون للبشرة بلون "الباج السكري" الموحد وراح يفركه على وجه، على صلعته، ثم على رقبته ليخفي كل الاوشام. ثم راح يضع كل الزينة والثياب التي حضرها للمناسبة. وما ان انتهى وقف امام المرآة ليتأمل نفسه. كان راضياً عن النتيجة، فوضع يده فوق صلعته وراح يمررها بنعومة ويبتسم. السر هنا، في مكان ما. والرجل الذي سيساعدني على اكتشاف السر قد وصل اخيراً.. خرج من المنزل وهو يتحضر في رأسه للحدث الذي سيزرع الرعب بعد قليل في "الكابيتول". هو لم يتراجع امام اي صعوبة وقد تأكد من الظروف التي تجمعت هذه الليلة، والآن، اخيراً، وصل البيدق الأخير على طاولة الشطرنج.