د. علياء رافع عاش معنا همام في رمضان واستمر في الوجود، بكل ملامحه وكلماته وأخلاقياته ودعاباته. إذ لم ينته المسلسل عند انتهاء مشاهدته، وإنما هو مستمر في وجدان من شاهده بما عبرت عنه الشخصيات من مواقف، وأخلاقيات، وصراعات، وانتصارات وهزائم. ولم يكن هذا النجاح إلا نتيجة لجدية واتقان وتناغم بين كل من شارك فيه، وبلغ أداء يحيي الفخراني ذروة تفوق فيها علي نفسه. هذه البساطة التي تبلغ حد الإعجاز في التعبير عن تلك الشخصية، جعلت المشاهد ينسي أن هناك يحيي الفخراني، وشيخ العرب همام، وأظن أن هذا التفوق يعود ليس فقط لبراعة الفنان، ولكن لأن شيخ العرب بشخصيته التي تمزج بين الخلق الرفيع وبين القوة، بين الإخلاص والحنكة السياسية، بين الإيمان واحتواء أبناء الوطن من المسيحيين والشعور معهم بالأخوة والمحبة دون تفرقه، كل هذه الصفات وغيرها تعيش في أعماقنا ، ولقد عبر الفنان يحيي الفخراني عن تلك الأصالة المصرية الكامنة في أعماق كل واحد منا، لأنه واحد من المصريين. وبلغ الفنانون الذي اشتركوا في هذا العمل قمة تفوقهم. وأزعم أن كل من قام بدور في هذا المسلسل سيكون أمام تحد قاس في أعماله المستقبلية. لم يشدني المسلسل فقط لموضوعه وتعريفه بجزء من تاريخ هذا الوطن، ولكن أمتعتني كذلك اللمسات الإنسانية التي زخرت بها كل حلقة، وأعتقد أنني يمكن أن أشاهد هذا المسلسل مرة ومرات، من أجل متعة التذوق لفن راق وأداء عال، وإنسانيات رفيعة، سواء كان ذلك في علاقة همام مع ابيه أو أخيه، أو زوجتيه، وأبنائه، وقومه، أو في تلك العلاقات المتشابكة من حب عميق لعاشق يحترق قلبه، ولكن لا يخبو نور هذا الحب، بل يظل وهاجا مضيئا، فتخرج منه نغمات وكلمات، يعيش فيها ومعها المحبون والمتصوفون علي السواء. ونهتز لهذا الصراع الإنساني الذي يعتمل في قلب الشيخ إسماعيل الذي عبر عنه عبد العزيز مخيون باقتدرا، لقد ارتبط مع ابن عمه شيخ العرب برباط وصفه أنه مثل اللحم والعظم في الجسد الواحد، ولكن تلك النوازع والأهواء وسوء الظن يعتمل في قلبه، ويعكر صفو هذه الحميمية، إنها طبيعة البشر، إنه الضعف الإنساني الذي يهددنا جميعا، والذي يجب أن نعيد حساباتنا مع أنفسنا دائما، حتي لا ننزلق في أوهام تجعلنا نخسر أقوي العلاقات وأفضلها في حياتنا، بل وقد يتعدي هذا الخسران الأمر الخاص، ويذهب إلي الأمر العام. ويمتزج الكوميدي مع الدراما في وصف الحياة اليومية التي تعيشها الضرتان في علاقة متأرجحة ما بين الغيرة الطبيعية لعاشقتين لرجل واحد، والتعاطف الإنساني، بل والصداقة والحميمية بينهما. نلمح تلك اللمسات الإنسانية في الحياة اليومية لذلك المجتمع الصغير، الذي يكثر فيه العبيد، ولكنهم مكرمون، وليسوا مسخرين أو مستعبدين، ولهذا فإن إخلاصهم وحبهم وتفانيهم في الخدمة يجيء تلقائيا، لأنهم يعتبرون انفسهم جزءا ونسيجا من هذه الحياة ومن الأسر التي يعيشون فيها ومعها، ولا يعتبر هذا تزييفا لوعي، لأن طبيعة المجتمع وأسلوب الحياة فيه جعلت السيد والعبد علاقة لا تقوم علي القهر ولكن علي الحب والإخلاص، فتصبح كلمة عبد غير ذات دلالة، ولكنها تعبير عن احتواء أسرة لفقراء لا يملكون قوت يومهم. وأما بولس فهو الكاتب والمعلم في نفس الوقت، هو الشخصية التي تذخر بالجدية واتقان العمل، ولا تتهاون بأي قدر لأي مستيب أو مستهتر. إنها الصفات التي أوجدت الحضارة المصرية بشموخها وكبريائها وسموها. والعلاقة بين بولس _ الذي ينتمي كلية إلي أهل مصر القدماء- وبين العربي همام الذي نزح من المغرب واستقر في مصر، فأصبح مصريا عربيا علاقة لا نشعر فيها باغتراب بين هذا وذاك، أو استبعاد من أي نوع، ولكن امتزاج طبيعي تلقائي وحميمية أصيلة ليس فيها أي ادعاء أو أي إيحاءات بأفضلية من عربي علي مصري أو مصري علي عربي لاختلاف الأصل أو الدين. هذه المسلسلات الهادفة لا تقطع الوقت ولا تقتله، وإنما هي قيمة مضافة لكل مشاهد، وليسمح لي القاريء أن آخذ من شخصية همام مثالا لإبراز سمات للشخصية المصرية، علي الرغم من لقبه "شيخ العرب". هذا اللقب الذي جاء تمييزا للهواريين بأصولهم وانتسابهم إلي الرسول، وبين المماليك الذين جاءوا إلي مصر كعبيد، لا يكاد يعرف لهم أصل، ولا بلد، فكلمة مماليك تطلق بشكل عام، مشيرة إلي هؤلاء الذين ليس لهم أصول أو جذور في مصر، ولا تمييز في هذا اللفظ بين مملوك أسود أو أبيض أو أصفر، فكلهم مماليك. وعلي الرغم من أن القبيلة التي جاء منها همام قد نزحت من المغرب، إلا أن استقرارها في مصر، قد أكسبها صفات خاصة، امتزجت فيها القيم الدينية الإسلامية الصوفية، بأخلاقيات المصريين وتوجهاتهم. ولذا فإن أهمية هذا المسلسل ترجع ليس فقط إلي أنه لفت الانتباه إلي شخصية تاريخية لها أصالتها ودورها الوطني، ولكن لأنه أعاد إلينا إحساسا عميقا بالإسلام الذي عبر عنه المصريون، لأنهم استقبلوا هذه الرسالة بحب وتقدير وتحولوا إليها تدريجيا لأنها عبرت عن الإيمان الذي ملأ قلوبهم منذ فجر التاريخ، وهو أقرب ما يمكن إلي الرسالة السمحاء التي جاء بها الرسول (صلي الله عليه وسلم) لأنها ترتكز علي الإيمان القلبي، وليس الشكلي، والتي ينتج عنها خلق رفيع لا يعرف الغدر والخيانة. فليس هذا ما يعبر عنه القيم التي تنقل إلينا افتراء علي الإسلام عبر القنوات الفضائية، وعبرت عنه موجات العائدين من البلاد العربية، وليست هذه الرؤية هي تلك التي تستخدمها جماعات تسييس الإسلام. سبغ ذلك الإيمان التلقائي علي شخصية همام السياسية طابعا خاصا، حيث امتزج الإيمان والإخلاص والقيم، بالحصافة والتخطيط للنصر دون تعارض. وهو ما يفسد النظرية السياسية التي رسمها ميكافيللي والتي تقوم علي الغدر وتبرير الوسيلة غير الأخلاقية في سبيل الوصول إلي الهدف. سنجد أيضا أنه إيمان لا ينجرف نحو الشعوذة والدجل، ويفرق بين اتجاه صوفي خالص يؤمن بالغيب ويشعر بالحضور الإلهي، وبين أفكار لا يقبلها العقل أو المنطق. وهزنا الشيخ سلام من الأعماق، ببراءة الطفولة، وعمق الإيمان، والمنطق العفوي الخالي من تأثيرات الأعراف والزيف الاجتماعي الذي ينحاز تلقائيا إلي قيم إنسانية رفيعة تنحاز للحب، حتي لو كانت الأعراف تقف أمامه، ويري الحق حقا والباطل باطلا دون اللتباس، فيكون وهو الأقل ذكاء وانتماء إلي الحياة الدنيا، ناصحا لأخيه الأكثر حنكة وتجربة وقدرة، وعندما تختفي شخصية الشيخ سلام بانتقاله إلي عالم البقاء، يفقد همام تلك البوصلة الأخلاقية التي كانت تنير له طريقه، ويقع في أخطاء تقوده تدريجيا إلي الهزيمة. وعلي الرغم من الفاصل التاريخي الذي يقف بيننا وبين همام (شيخ العرب) إلا أنه شخصية قريبة نكاد نلمسها ونراها، بل وندرك مدي افتقادنا لها، وشوقنا إليها. أين نحن من هذا الشموخ والاعتزاز بالذات القائم علي إعلاء قيم الصدق والأخلاص والوفاء، وقد أصبحنا نعيش في جزر منعزلة، لا تحركها إلا المصلحة الذاتية، دون نظر إلي المصلحة العليا للوطن؟ ما الذي حدث للشخصية المصرية، كيف فقدت أصالتها؟ إنها أسئلة في حاجة إلي دراسات وليست دراسة واحدة، ولكن همام يوقظ فينا الحنين الدفين إلي هذه الشخصية. لقد أصحبت ثقافتنا غريبة علينا، لأننا سرنا في مسيرة لا ننتمي إليها ولا تنتمي إلينا، ليس تقليلا من شأننا أو شأنها، ولكن لأننا تدريجيا قد فقدنا الثقة بأنفسنا. ويقدم همام مفهوما غاية في العمق للقيادة، لأنه يكتسب قوته من احترام قومه له وتقديرهم وثقتهم فيه، مما يلزمه أن يكون أمينا معهم، أو ما نطلق عليه اليوم ملتزما بمبدأ الشفافية. لا يخفي عنهم خافية، ويتجاوب مع آمالهم وأحلامهم. فهو لا يعيش في برج عاجي معزول عن الناس، ولكنه يعيش وسطهم وبينهم، يستمع إليهم ويأخذ بنصحهم. وإذا كانت القرارات الإستراتيجية التي يأخذها تكون منفردة، ولكن مع ذلك فإنه يتحمل المسئولية الكاملة لنجاح أو فشل هذه القرارات. قيادته تتسم بانها ما يمكن أن نطلق عليه اليوم العلاقة الأفقية في القيادة، حيث لا يوجد هيراركي، وإنما تكون قوة القائة انعكاسا لقوة الشعب، وهذا عكس العلاقات الرأسية التي تجعل قوة القيادة في السيطرة وإضعاف القاعدة الشعبية العريضة. إنه أيضا الأسلوب الذي لم نفهمه عن العلاقة بين حكام مصر في عهد القدماء المصريين وبين شعبهم، وتصورنا أن كل حكام مصر كانوا نسخة مكررة من فرعون الذي أعلن نفسه إلها علي شعب مصر واضطهد بني إسرائيل، والدراسات في المصريات تنفي هذا النوع من التعميم، ذلك أن الحكومة المركزية كانت ضرورة من أجل تنظيم شئون المصريين الذين اعتمدوا علي النهر لتسير بهم الحياة، ولم يكن هذا يعني أنهم مضطهدون أو مسخرون، وإنما كان فرعون يمثل لهم رمزا لإقامة العدل، يحكم باسم حورس. ومع ذلك لم يخل الأمر من خيبة أمل هنا وهناك لأن أي حاكم هو إنسان قد لا يعبر عن تلك المثل التي يتطلع إليها المصريون. وما نحتاجه اليوم هي صفات أخلاقية لقائد مثل همام، يقوي من إمكانيات شعبه، ويرضخ لما يريدونه، حتي لو طلبوا منه أن يتخلي عن القيادة. حينئذ سيكون رضوخه تكريما له، وليس تقليلا من قدره، لأنه سيكون علي ثقة أن هذا الشعب قادر علي اختيار من يعبر عنه، وتكون هذه الثقة مبنية علي حصاد من التفاعل الذي يكون قد أقامه مع الشعب، فساعده علي النضح السياسي. لم يكن همام شيخ العرب مسلسلا قد انتهي، ولكنه قضية قد بدأت.