في نهاية الأسبوع الماضي اجتمع مجلس أكاديمية البحث العلمي برئاسة الوزير المسئول د. هاني هلال لمناقشة عدد من القضايا وفي نفس الاجتماع أيضا تمت الموافقة علي الترشيحات وإعلان جوائز الأفراد والهيئات في مختلف التخصصات العلمية وكانت المفاجأة الكاملة ليست في أسماء من فازوا أو لم يفوزوا وجميعهم علماء وباحثون أجلاء.. ولكن فيما وراء قصص هذه الجوائز التي كما أعلن الوزير ورئيس الأكاديمية د. ماجد الشربيني قد حجبت 14 جائزة علمية بينما عدد الجوائز المخصصة لذلك 41 جائزة مقدمة من هيئات وشركات أو أفراد وهم غالبا علماء كبار. وبقراءة متأنية لنتائج هذه الجوائز سنكتشف أن أكثر من ثلث هذه الجوائز أي ما يقرب من 35% من العدد قد تم حجبه ولم يفز أحد، ونفس الشيء ينطبق علي القيمة المالية لهذه الجوائز جميعا وهي نصف مليون جنيه مصري فقط لا غير وما تم حجبه يصل إلي ما قيمته 150 ألف جنيه مصري أي بنسبة تقترب من الثلث أيضا ولأن ظاهرة حجب الجوائز ظاهرة مقلقة للغاية وغير صحية، لأنها تعكس إما نضوبا في الأفكار والابتكار أو الأشخاص أو أنها تعكس أيضا قصورا في الإعلان عن هذه الترشيحات والجوائز من قبل الهيئة المختصة وهي هنا وزارة البحث العلمي والأكاديمية أو ثالثا فقدان هذه الجوائز لأي معني أو قيمة تستدعي إقبال المرشحين لنيلها وأعتقد أن السبب الأخير هو الأقرب للصحة حتي الآن في أي قراءة لهذه النتائج، لأن الترشيح لهذه الجوائز لا يتم إلا شخصيا وبالتالي فنحن أمام ظاهرة عزوف جماعي من العلماء والباحثين ولاسيما في الشباب منهم من التقدم لنيل جوائز. ويعني أيضا أننا أمام حالة اكتئاب علمي إن صح التعبير قد تصل إلي حد المقاطعة الكاملة فيما بعد للبحث والجوائز ما لم يتم سريعا تدارك الأمر. والأمر الغريب أيضا أن قيمة الجائزة الواحدة سواء الذي فاز أو لم يفز في حدها الأقصي أي أكبر قيمة مادية لم تتجاوز 25 ألف جنيه لا غير وعددهم قليل من الجوائز بينما الغالبية العظمي من الجوائز قيمتها لا تتجاوز 10 آلاف جنيه مصري وجزء أو عدد لا يستهان به قيمته المادية تتراوح بين ألف جنيه إلي ألف دولار فقط لا غير. وهذا يعني ببساطة أن هزلية مبالغ وقيمة الجوائز "المادية" لا تقلل أبدا من قيمة المتبرع بها لأنها بالتأكيد تمثل قيمة مادية ومعنوية له "وقت التخصيص"، هذا يعني أن قيمة العلم لدينا والبحث والابتكار لا تساوي أكثر من وجبة إفطار أو سحور لعدد قليل من الأشخاص في إحدي المناسبات التي ندعي إليها هذه الأيام من قبل الأثرياء الجدد أو حتي الهيئات والمؤسسات العامة والخاصة في مصرنا العزيزة. فتأمل أي المناسبة الآن لموائد الشهر الكريم خاصة التي تحرص أغلب الهيئات في مصر علي إقامتها.. سوف يتضح منها بسهولة شديدة ولا نحتاج فيها إلي أجهزة إلكترونية للحساب والضرب والجمع أن قيمة المصروف علي هذه الولائم والمناسبات تتجاوز في قيمتها المادية إجمالي المخصص لكل جوائز الأفراد والهيئات والشركات في البحث العلمي والعلوم.. وبمعني آخر إن ما يصرف علي البطون ومع العلم أن أغلبه "يذهب إلي القمامة" أهم بكثير جدا من التفكير في التبرع لإقامة وتخصيص جائزة علمية! ليس فقط النظر إلي موائد الرحمن التي تقيمها المؤسسات والأفراد في رمضان وإنما نظرة حتي إلي برامج التليفزيون ستجد مثلا أن أكبر برنامج به مشاهدة في التليفزيون الرسمي يخصص جائزة يومية بمبلغ 10 آلاف جنيه للفائز عن إجابة أسئلة ما أنزل الله بها من سلطان والغريب أن كل الأسئلة التي تتصادف واتابعها "مضطرة" أغلبها إما كرويا أو فنيا أو دينيا وهي الأغلبية من الأسئلة بينما أسئلة العقل والبحث والمعلومات نصيبها يكاد يقترب من الصفر تقريبا. وكذلك الأمر ينطبق أيضا علي كل الجوائز في البرامج التليفزيونية فأغلب الأسئلة والجوائز وهي بمبالغ كبيرة للغاية في الحلقة الواحدة، لا تخلو من أسئلة ومعلومات تخاطب العامة ولا تحتاج إلي اجتهاد كبير.. أو إعمال العقل والمعرفة والبحث من ذوي الألباب القائمين علي هذه البرامج وهذا لا يعني أنها برامج "سيئة" أو أننا ضدها ولكن الشيء حينما يزيد عن حده ينقلب إلي ضده ولا مانع من هذه البرامج الترفيهية وجوائزها القيمة جدا والتي للأسف تتبرع بها في الغالب كبريات الشركات ورجال الأعمال بل وبعض البنوك في مصر. ولكن لابد أيضا للتقليل من ذر الرماد في العيون وتخصيص جوائز مادية أيضا لهذه الفئة المنسية من مواطني مصر واسمهم المجتهدون من العلماء والباحثين.. الذين هم بدون تعسف أو حتي اقلالا من كرامتهم يعانون للغاية في حياتهم اليومية ولاسيما من الشباب منهم وحتي الكبار الأجلاء فنظرة واحدة إلي تدني المرتبات "رغم كل الجهود" وإلي الأزمات التي نعيشها سنجد أن هذه الطائفة من مواطني مصر وأقصد بها باحثيها وعلماءها هم الأولي بالرعاية والتفكير. ولا يقتصر الأمر فقط علي حياتنا اليومية وبرامج التليفزيون والإعلام بل النظر حتي إلي المقارنة بالجوائز الأدبية التي تخصصها الهيئات أو حتي كبار رجال الأعمال في مصر لطائفة المبدعين في مختلف أنواع الثقافة والفنون والآداب والموسيقي ستجد أنها كثيرة للغاية وبمبالغ محترمة بينما يندر أن نسمع عن وجود تخصيص جائزة مادية كبري في مجال العلوم والبحث العلمي والابتكار.. فالواجهة الاجتماعية أو العمل العام للشركات يتجه في أغلبه الأعم إلي الأعمال الفنية والأدبية وهذا مهم وعمل جاد لا غبار عليه خاصة أنني أنتمي لهذه الفئة من التصنيف ولكن هذا لا يمنع أيضا من ضرورة وجود جوائز مادية قيمة للعلماء والباحثين. وهذا لن يحدث ما لم يشعر المجتمع والمواطن بأهمية البحث العلمي والتفكير العلمي في حياته وفي المجتمع وفي النهوض به فإشاعة التفكير العقلاني واحترام العلماء والباحثين وهيبتهم هو الذي سوف يساعد علي جذب الهيئات والأفراد إلي المشاركة في تنمية البحث العلمي والنهوض به، وأعتقد أنه كخطوة أولي يجب علي مؤسسات الدولة ولا سيما البنوك ورجال الأعمال الكبار من دعوتهم لمثل هذه التبرعات وإنشاء الجوائز باسمهم ولا مانع من أن تخصص الجامعات أيضا جوائز "قيمة" باسم كل جامعة في فرع من فروع العلم والمعرفة.. هذا بجانب جوائز الجامعات السنوية في البحث العلمي.. هذه بعض الأفكار التي خطرت علي بالي سريعا وأعلم أنه لو وضعت هذه الفكرة علي مائدة البحث سيكون هناك العشرات من الأفكار لجذب الأموال لعمل جوائز علمية ومادية محترمة.. تساعد الباحثين علي حياتهم وأيضا تشيع مناخا من حب العلم والمعرفة. فالعلم وأخواته من التفكير والحوار ليس أبدا فريضة غائبة ولندع جميعا في هذه الأيام الجميلة أن يعود العلم إلي مكانه وأن نطلب العلم ولو في الصين. إيمان رسلان