كرة القدم دائماً ماتطفو علي سطح الاحداث مهما كانت .. بل انها تملك سحرا عجيبا في طمس الاجواء بحالتها الخاصة . فلو تلونت الكرة بلون الفرح تهتز الشوارع بالصخب الجامح والرقصات التي تقترب كثيراً من تلك الرقصات البدائية التي اخترعها الانسان منذ بدء الخليقة . ولو تلونت بلون الخسارة لما سمعت الا صمتا يعقبه تصريحات الغضب وربما السباب. هكذا تصنع كرة القدم فعلتها العجيبة في الشعوب وعلي اختلافها سواء هؤلاء الساكنين في العالم الاول او نحن ابناء العالم الثالث . غير ان هذا السحر الكروي له في دول مثل الدول العربية منبع آخر ربما هو غير متحقق في الدول المتقدمة القائمة علي اطر وقوانين ديمقراطية مفعلة بشكل كبير . هذا المنبع تحققه فكرة ان كرة القدم لعبة قائمة علي الموهبة بشكل أساسي حيث لا تنجح (الواسطة) في تحقيقها . صحيح أن هناك أسماء تم فرضها من خلال الوراثة وصحيح ايضاً أن هناك مواهب حقيقية يتم وأدها لأسباب شخصية أو حسابات مصالح إلا أنه وفي النهاية تكون المباراة هي الكاشف الحقيقي حيث الملاعب لا ترحم فهي تضع الموهوبين فقط في قائمتها الأساسية وتلقي بمن دون ذلك إلي دكة النسيان . هكذا تحقق كرة القدم في شعوبنا العربية .. الديمقراطية حتي ولو كانت منقوصة إلا أنها متحققة بدرجة ما . وإذا أضفنا إلي ذلك أنها تداعب أحلام اغلب الفتيان والشباب في تحقيق الشهرة وصعود السلم الاجتماعي إلي اعلي طبقات المجتمع . ألم تصنع كرة القدم من لاعبيها أعضاء لمجلس الشعب ومقدمي برامج ورجال أعمال ملء السمع والبصر ووسائل الاعلام وهم ومع كامل الاحترام لإنسانيتهم لم يكن ابداً ليصلوا الي ما هم فيه لولا كرة القدم . وبهذا تكتمل التوليفة التي تتسرب إلي عقولنا سواء الواعية أو غير الواعية . كرة القدم اذاً في ذهن البعض تستطيع أن تحقق (عبر موهبة اللعب فقط ) كل الأحلام ، فهي قادرة علي إعفاء صاحبها من جحيم البطالة والمحسوبية وفي بعض الأحيان من عبء الدراسة ايضاً بالإضافة إلي أنها كفيلة أن تصنع من صاحبها نجما مشهورا في مجالات أخري هو لا يملك لها أي مقومات لكنه يستطيع التمتع بالمزايا والشعور بالتشفي والاستمتاع بأخذ ماهو ليس من حقه . يبدو لي أن أصحاب هذه العقلية هم أبطال عروض السخف المصرية الجزائرية الأخيرة . ويمكنك ببساطة أن تتابع التعليقات المكتوبة علي أي خبر متعلق من قريب او من بعيد بمباراة مصر والجزائر القادمة خاصة عبر شبكة الانترنت لتكتشف مدي الفجاجة والعدائية التي يتعامل بها الطرفان حيث التراشق بكلمات مراهقة ومهينة تستفز حتي أصحاب العقول المتزنة لو استسلموا للعواطف الشيفونية والأمر لا يبدو بمعزل عن ذلك الاستغلال أو الاستثمار الإعلامي الذي يتبني ظاهرياً لسان حال الشارع ليعبر عنه بينما هو في الحقيقة كما ذلك الحاوي في المولد حين يبتلع ( الجاز ) ليصبه نارا في وجوه متفرجيه ويجني في المقابل بعض التصفيق وقليلا من النقود لكن الفرق بينهما أن جمهور حاوي المولد يعرفون حقيقته ويدفعون نقودهم مقابل تسلية وقتية وربما إحسان خفي بينما جماهير الحاوي صاحب البدلة المنمقة والقنوات المشفرة لا تعرف انها أداة لصناعة مزيد من الشهرة والإرباح ومزيد من اللغط والشوشرة الكفيلة بالتغطية علي باقي الأحداث بغض النظر عن مدي أهميتها . وبذات القدر الذي تتساهل فيه الحكومات العربية في السماح بتلك الفوضي الشعبية الكروية الراقصة في شوارعها تحت بند حرية التعبير بينما تقمع اغلب المظاهرات السياسية بالفعل والتهويش والتهميش ، تتواطأ حين تسمح لذلك العبث والتجريح الإعلامي بالاستمرار تحت بند حرية الفكر وعدم تقييد الإعلام بينما تمتلك اقوي أنواع الرقابة تجاه أي أفكار تهدد سلطتها الفردية .