والحكومة هي المسئولة الأولي والأخيرة عن هذه الكارثة؛ لأنها لم تفِ بوعدها في تحقيق الحد الأدني من الرفاهية للشعب المصري، بل إنها وضعت العراقيل أمام هذه الرفاهية. الحكومات ليست أدوات وأساليب جباية وفرض إتاوات، وإنما هي راع، وكل راع مسئول عن رعيته، والرعاية تعني المسئولية والحماية وتوفير سبل العيش الكريم، والأمن والطمأنينة، وإذا ما غابت المسئولية الاجتماعية عن أي حكومة تحولت إلي مجرد "ملتزم" كل ما يسعي إليه هو جمع الضرائب، دون أن تقابلها خدمات لصالح من يدفعونها، وهذا ما يحدث عندنا الآن، وبدا واضحا من أول يوم شُكلت فيه حكومة" نظيف" التي جاء أغلب الوزراء فيها من رجال المال والأعمال، وأصحاب فكر " البيزنيس" الذي يصلح للسوق فقط، ولا يصلح لإدارة أمة، فمصالح الشعوب ورفاهيتها وعيشها الكريم، لا تقاس بمبدأ المكسب والخسارة، ولهذا لم يكن غريبا أن يأتي رئيس الوزراء ويصرح أن الحكومة ليست جمعية خيرية، وأنها غير ملزمة بمبدأ التوظيف، وعلي نفس الطريق جاء تصريح وزير الإسكان" أحمد المغربي" عندما قال أن وزارته لم تكن مسئولة عن تسكين أهالي "الدويقة" ووجه إليهم اللوم والمسئولية في البناء في منطقة عشوائية! وللأسف انتشر هذا الفكر المغلوط لمفهوم الدولة، وأصبح هو شعار المرحلة، وغابت المسئولية الاجتماعية عن فكر حكومتنا مع سبق الإصرار والترصد، وفي اعتقادي، أن هذا التغييب المقصود للمسئولية الاجتماعية للحكومة، يسحب منها شرعية وجودها. وكان من نتيجة غياب المسئولية الاجتماعية للحكومة، ما تعانيه مصر من بطالة خانقة، وصلت إلي حد الكارثة، ونسي حكامنا أن البطالة القاسية تؤدي إلي إهدار طاقات الشعب من الناحية الاقتصادية وإلي عنف اجتماعي واضطراب سياسي في بعض الأحيان.. مشكلة البطالة، التي عجزت الحكومة عن حلها حتي الآن ترسم صورةً قاتمةً لأوضاع مصر الاجتماعية والاقتصادية، خاصة مع تفاقم المشكلة، فحجم البطالة الحقيقي لا يقل بأي حال من الأحوال عن 17 % : 20 % من حجم قوة العمل في مصر، وهذا في حد ذاته كارثة حقيقية يجب أن تعيها حكومتنا ، التي لو أرادت إرادة حقيقية لقضت علي البطالة أو كانت في سبيلها لذلك، ولكنها للأسف لا تفكر في حلول حقيقية. عدم جدية الحكومة في تنفيذ ما وعدت به في برنامج الحزب الوطني من توفير فرص عمل، جعل الشعب لا يثق في حكومته التي ساهمت بسياستها الخاطئة والفاشلة في رفع معدلات البطالة سواء من خلال بيع شركات القطاع العام ،أو بسبب تحرير سعر الدولار، والذي كان سببًا في أن أغلقت آلاف الشركات والمصانع بالمدن الجديدة، وهو ما نتج عنه قلة فرص العمل وتزايد أعداد العاطلين، مما أدي إلي تزايد عدم الولاء لهذا الوطن؛ بسبب السياسات الخاطئة والتشريعات التي لا تخدم سوي مجموعة من أصحاب المصالح الكبار،كل هذا أوصل الشباب إلي حد اليأس، بعد أن تزايدت نسبة البطالة بينهم بشكل كبير، والتي تتراوح بين مليونين وستة ملايين شاب، بنسبة تقترب من 20 في المائة من العمالة المصرية، مما قتل روح الولاء والانتماء لديهم، وأظلم الدنيا في وجوههم ،لشعورهم باليأس، وأنهم عالة علي أسرهم، التي ربتهم وعلمتهم، وظلوا في كنفها، حتي بلغت أعمار بعضهم سن 40 عاما، بدون عمل أو زواج أو أمل في مستقبل مهني محترم، وكل ذلك دفع بأعداد كبيرة منهم إلي الانتحار إما موتا سواء ماديا أو معنويا في بلادهم، أو غرقا في بحار الهجرة غير الشرعية. والحكومة هي المسئولة الأولي والأخيرة عن هذه الكارثة؛ لأنها لم تفِ بوعدها في تحقيق الحد الأدني من الرفاهية للشعب المصري، بل إنها وضعت العراقيل أمام هذه الرفاهية. ويرتبط بمشكلة البطالة انتشار الفقر ، الذي هو انعكاس لرفع يد الدولة عن المرافق والخدمات وإطلاق يد القطاع الخاص للتحكم في السوق، والتباطؤ في إصدار قانون المنافسة ومنع الاحتكار ،وتوقف الدولة عن تعيين الخريجين، وزيادة الخضوع لمنظمات التمويل الدولية بما يساهم في انتشار الفقر وتفجير العنف والجريمة بجميع أشكالها ، وذلك ناتج عن تطبيق ما تسميه الحكومة بسياسات الإصلاح الاقتصادي وزيادة اندماج مصر في السوق العالمية وإطلاق حرية السوق وحرية القطاع الخاص، وسحب يد الدولة من العديد من الخدمات والمرافق، إضافة إلي بطء معدلات النمو وانعدام وجود استراتيجيات وبرامج لمكافحة الفقر،والمشكلة الأكبر أن الفقر زحف إلي أعداد كبيرة من الطبقة المتوسطة التي هي عماد المجتمع وعصبُه مما يهدد المجتمع بأسره. كما يوجد تفاوت كبير في توزيع الدخل بين الطبقات؛ حيث أوضح تقرير التنمية البشرية الأخير أن أغني 20% من السكان يحصلون علي 43.6% من الدخل القومي بينما أفقر 20% لا يحصلون سوي علي 8.6% من الدخل القومي، بما يعكس التفاوت الطبقي وسوء توزيع الدخل وتركز الثروات وانتشار الإنفاق الترفي في مواجهة انتشار الفقر. و عندما تزايد الفقر في المجتمع المصري تزايدت العشوائيات التي تحد من تطور المجتمع مما أدي إلي زيادة ظاهرة أطفال الشوارع والجرائم الغريبة التي لم تكن موجودة من قبل. وتدرك الحكومة جيدا مدي خُطورة العشوائيات علي الأمن القومي المصري، لأنها تمثل "حِزامًا ناسفًا" و"قنابل مَوقوتة" تُحيط بالعاصمة المصرية. ويرجع تضخُّم المشكلة إلي هذا الحدِّ المَرَضي، إلي الفساد المُستشري في المحليات وعدم تطبيق القانون، فضلاً عن انتشار الرشوة والمحسوبية، إضافة إلي عدم وجود شفافية في المِنح المقدّمة لتطوير مناطق العشوائيات. وحسب التقارير الرسمية، فإنه يوجد علي مستوي جمهورية مصر 1000 منطقة عشوائية، وهي موزّعة علي المناطق المختلفة، منها 85 منطقة عشوائية تمثل حِزامًا ناسفًا ملفوفًا حول العاصمة (مدينة القاهرة) بمفردها، إضافة إلي 67 منطقة عشوائية في محافظة القليوبية المجاورة للعاصمة، فيما تشير التقارير الرسمية ومضابط مجلس الشعب إلي أن 5% فقط من هذه العشوائيات قد تمّ تهذيبها. ومنذ بداية التسعينيات والحكومة تتحدّث عن مشروع لتهذيب وتطوير العشوائيات، لكن شيئًا من هذا المشروع لم يرَ النّور، رغم أنها حصلت علي أموال ومِنح أجنبية طائلة لمعالجة هذه العشوائيات، ولا نعرف حتي اليوم أين ذهبت هذه المنح؟! وهو ما يشير إلي أن هناك فسادا في التعامل مع المَعُونات والمِنح، وليس هناك شفافية، فضلا عن أن ردّ فعل الحكومة محدود وبطيء للغاية. ومرة أخري نؤكد أن غياب المسئولية الاجتماعية للدولة هو الذي أدي إلي اتساع دائرة العنف ومداه داخل المجتمع المصري بين الفقراء والأغنياء علي السواء،بدليل قيام طبيب شهير بتقطيع جسد خصم له بطريقة بشعة، واتهام رجل الأعمال هشام طلعت مصطفي في جريمة قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم. ونؤكد أيضا أن المسئولية الاجتماعية حجر وركن أساسي من أركان قيام الدولة ومن أهم واجباتها، ليس في الدول الاشتراكية فقط ، كما يدعي البعض، ولكن في أشد الدول الرأسمالية تطرفا،ففي أمريكا وفرنسا وانجلترا ، تأتي مسئولية الدولة الاجتماعية في المقدمة،ولم تتخل هذه الدول يوما عن مسئولياتها تجاه شعوبها، ولم تتركهم نهبا لمشاكل البطالة والفقر والحاجة، مثلما يحدث عندنا. نعم تعاني هذه الشعوب من البطالة كما نعاني، ولكن ليس بالنسبة نفسها، إضافة إلي أن هذه الدول يتمتع فيها المواطن بتأمين بطالة ، طالما لم توفر له الدولة فرص العمل،ولا يحدث فيها ما يحدث عندنا من تجاهل للمشكلة وأسبابها، وإدارة الحكومة ظهرها للشباب الباحث عن عمل ،في الوقت الذي التفتت فيه بكليتها وبكامل طاقتها تجاه المشروعات الترفيهية التي تضمن المزيد من الرفاهية للمترفين في مارينا وبورتو مارينا وبورتو الساخنة وغيرها من مدن الأثرياء، وتركت الفقراء يبحثون في القمامة عن كسرة خبز في جحور العشوائيات. وإذا كانت حكومتنا هي المسئول الأول عن العدالة الاجتماعية المفقودة بعد أن غيبت مسئوليتها الاجتماعية ، فرجال المال والأعمال صنيعة هذه الحكومة هم أيضا مسئولون أمام الله وأمام الشعب عما يعانيه شعبنا الصابر الصامد من ماس اجتماعية عديدة تثقل كاهله : بطالة وفقرا وغياب خدمات ومعاناة ليل نهار. فقد جاء هؤلاء الأثرياء الجدد _اللهم قليل منهم- علي دين حكومتهم يسعون لمص دم المصريين ولا يراعون فيهم الله ، متناسين أن الأموال التي استولوا عليها من البنوك وتجارة الأراضي التي وهبها لهم بعض الفاسدين في حكوماتنا المتعاقبة هي أموال وأراضي الفقراء ، الذين لم يعد لهم إلا الله والشرفاء من أبناء مصر، وليت كل صاحب مال من رجال المال والأعمال عندنا يتعلم من رجل الأعمال الأمريكي " بيل جيتس " وهو من هو في عالم الحاسب الآلي، عندما زار مصر في السنوات الأخيرة، ولدي سؤاله عن ثروته قال : إن ثروتي بسبب المجتمع، وسوف تعود للمجتمع، من خلال تمويل مؤسسات بحث علمي طبي، لعلاج الأوبئة والأمراض المستعصية، وتمويل تطوير التعليم، ولا أعتقد أنني سوف أترك ورائي أموالا لورثتي . وهي كلمات تحتاج لمزيد من نظرة التأمل، من أثرياء مصر ، الذين وهبتهم مصر ثرواتها وخيراتها بدون حساب ، لعلهم يراعون الظروف القاسية ، التي تكاد تعصف ليس بالفقراء وحدهم ولكن بالمجتمع كله إن لم نتكاتف جميعا ، وتعود العدالة والمسئولية الاجتماعية المفقودة.