ليس المهم من يحكمنا بل ما الذي يحكمنا وما الذي نبتغيه ونريده وليس ما يفرض علينا. تناولنا في المقال السابق أهمية تحديد هوية مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هوية السياسات العامة للوطن، وخلصنا إلي أنه يجب تحديد هذه الهوية بمعناها السياسي، وأنه ليس المهم من يحكمنا بل ما الذي يحكمنا وما الذي نبتغيه ونريده وليس ما يفرض علينا .... وطرحنا أهمية أن يكون هناك حوار وطني حول أولويات هذه الهوية ... وأولويات هذا الوطن من خلال تحديد عقيدته السياسية عبر حوار فعال تكون بدايته رسم نسيج هذه الهوية من خلال دستور مدني شامل مانع بلا التباس مفاهيمي ولا إعوجاج قانوني ولا احتكار أيديولوجي ... واستكمالا لتحديد ملامح هذه الهوية، يجب أيضا _ ضمن سياق التحديد السياسي أن نرصد التغيرات الحادثة في لغة الخطابات المتنوعة خاصة علي الصعيد الثقافي ... فقد يتصور البعض أن الثقافة هي موجة أثيرية تسبح في الفضاء، وأنها ليست نتاجاً لتفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية .. فالملاحظ أن هناك خطابات متعددة تشير إلي أزمة ثقافية بمعني أننا نفتقد إلي آليات كل أنواع أو عناصر الثقافة بدءا من الرياضة وانتهاء بالفنون.. فمع تنامي ظاهرة خطباء الفضائيات، وعصر الفتاوي الجديدة، ومع تكاثر وتلقيح العديد من المحللين والخبراء في كل المجالات، ظهرت ظاهرة جديدة اسمها فقدان ثقافة (س) وثقافة (ص) عبر تصريحات العديد من الخبراء ... فهذا خبير استراتيجي، وذلك خبير إعلامي، وثالث خبير مروري، ورابع خبير رياضي، وخامس خبير بيئي، وسادس خبير في المجتمع المدني، وسابع خبير قانوني، وثامن خبير أثري، وتاسع خبير مأكولاتي (أي متخصص في عالم الطعام)، وعاشر خبير جنسي ... وقد اصطفوا جمعيا صفا واحدا ونحتوا لنا مصطلحا جديدا، فهذا يتحدث عن فقداننا لثقافة الاحتراف، وآخر عن قلة خبرتنا بثقافة التشجيع خاصة في الرياضات المختلفة، وثالث بأننا مجتمع يفتقد ثقافة الاعتزال أو الاستقالة ويحيلنا إلي حال وزرائنا ومسئولينا الذين منذ تعيينهم لا يتركون مناصبهم إلا للشديد القوي وكلنا نعلم ما هو "الشديد القوي"، ورابع يعايرنا بأننا نبتعد كثيرا عن ثقافة الاختلاف، فكل منا يحتكر الحقيقة لنفسه وأنه يمتلك ناصيتها، وخامس يجلدنا بأننا لا نفهم ثقافة الأمومة وما تتطلبه وأننا لم نولد من أمهاتنا أحراراً بل عبيداً، وسادس يؤكد عدم امتلاكنا لثقافة القيادة وجهلنا بقواعد المرور والتسيب، وسابع يقول بأننا نفتقد ثقافة السيارات، علي اعتبار أننا شعب من حفاة الريف، وأننا لا نفقه شيئا في الجاجوار والشبح والبوكسر والبورش، وثامن يحدثنا عن ثقافة تناول الطعام وأساليبه وأننا لا نفهم بروتوكول المائدة، وتاسع عن الثقافة الصحية، وعاشر عن الثقافة الجنسية، باعتبارنا من الكائنات العذرية، وآخر عن الثقافة الحزبية، وآخر عن ثقافة الاعتراض والاحتجاج وآخر عن ثقافة التصويت في الانتخابات .... الخ ..... وأصبحنا الآن من تصريحات خبرائنا واستراتيجيينا ومحللينا لا نمتلك أية ثقافة، سوي ثقافة اللاثقافة...ولنبدأ من هنا .. هل بالفعل يعاني المجتمع المصري من خواء في ثقافاته المختلفة وأساليب التعبير وآليات هذه الثقافات .. وهل السبب في ذلك يعود إلي طبيعة هذا المجتمع منذ بداية وجوده علي الأرض أم لأسباب محدثة؟ .. وهل هذا التخلف في الأداء وقلة الكفاءة مردها فقط إلي انصياع هذا المجتمع للثقافة الأبوية التي ولدتها الثقافة المركزية التي ولدتها الحضارة الفرعونية التي نصبت فرعونها إلها؟ .. وهل السبب في ذلك يرجع إلي استلاب هذا المجتمع حريته عبر العديد من قرون الاستعمار واستلاب أرضه وعرضه عبر الحملات التوتاليتارية المختلفة؟ .. وهل يعود ذلك إلي أن الثقافة المصرية الأصلية ثقافة غير قادرة علي الاندماج مع الثقافات المعاصرة والحديثة التي تفرض آليات وأساليب تتوافق مع كل عصر ومرحلة؟ .. وهل هذه اللاثقافة مردها لأسباب سياسية من قهر واستعباد واستبعاد وعدم فعالية المشاركة السياسية؟ وهل ذلك سببه ظروف اقتصادية قاسية أكلت الأخضر واليابس من وجدان المجتمع وعقله .. وأصبح لا وقت ولا رغبة لديه لتحسين سلوكياته وتنمية قدراته العقلية والنفسية لقسوة الحياة وفقرها؟ ... وهل حدث ذلك لانهيار في القيم الأخلاقية وتفسخ المجتمع وتصدير المصلحة الشخصية والأنانية علي كل المحيط الاجتماعي؟ ... هذه الأسئلة وغيرها الكثير يجب أن تطرح بشكل علمي ومنضبط لمعرفة ما أفتانا به خبراؤنا حول اللاثقافة .. وأن يكون هناك إجماع من النخب المختلفة في المجتمع لتحديد وتشخيص أمراضنا ثم البدء علي الفور في رصد طرق العلاج ومتابعتها لاكتشاف مدي كفاءتها وفعاليتها... وهل باستطاعة مجتمعنا _ رغم كل هذه الآفات _ أن يصل إلي العصر الحديث .. العصر المتمدين .. العصر المتحضر .. وأن ينال من الحضارة والمدنية ما يساعده للولوج لوضعية أكثر احتراما .. وأنه قادر علي الزيادة من إنتاج الثقافة لتحسين نظامه الاجتماعي... وهل قادر علي التفاعل مع الثقافات الأخري متعددة المشارب يشارك في صياغتها وملامحها... إن العقل يعتبر أحد أهم مكونات الفعل الحضاري للإنسان وأن الخطوة الأولي للبشرية علي طريق الحضارة الإنسانية هي نجاح المخ البشري في خلق العقل الذي كان الطريق الملكي للإنسان لكي يبتكر ويبدع ويراكم خبراته وتجاربه لتنشأ الثقافات والحضارات .. والعقل مرتبط بقدرة الإنسان علي إدراك الأشياء وفهمها والربط بين الظواهر بعضها ببعض سواء أكانت ظواهر طبيعية أم إنسانية .. فإذا كانت بالفعل ثقافة اللاثقافة هي التي تميزنا ... فمتي نمتلك ثقافة الثقافة...؟