المفروض في النقابات أن تكون "طوعية" و"اختيارية" لكن المفروض شئ والواقع شئ آخر تماما، لأن مبدأ "الاختيار" تم إلغائه منذ البداية. عندما أعلن أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية قرار مجلس نقابته بمنع الممثلين العرب من التمثيل في مصر أكثر من مرة واحدة خلال العام، ثار جدل ساخن بين مؤيد ومعارض لهذا القرار. لكن معظم هذا الجدل تركز في رأينا علي مسائل فرعية مثل تأثير هذا القرار علي توفير فرص العمل للممثلين المصريين الذين يشكو كثير منهم من البطالة، ومثل استغلال بعض الممثلين، والممثلات العرب مهنة التمثيل في مصر وتسترهم، أو تسترهن بالفن من أجل أغراض أحري ليست فوق مستوي الشبهات. ولست أري أهمية للخوض في جدل حول مثل هذه الأمور الهامشية، بينما أري أن القرار المشار إليه يكتسب أهميته من زاوية أشمل هي فلسفة العمل النقابي في مصر، كما تتجسد علي الواقع من خلال ممارسات نقابات مثل نقابة المهن التمثيلية، ونقابة الصحفيين ونقابة الأطباء وغيرها من النقابات المهنية والعمالية. وهي فلسفة تعاني من خلل أساسي آن الأوان لفتح النقاش حوله بصراحة. وهو خلل موروث من حقبة سابقة مرت عليها سنوات وعقود واكتسبت قوة دافعة بحكم الأمر الواقع. والمفروض في النقابات أن تكون "مستقلة" أصلا عن الحكومات وعن المعارضة، وألا تكون مخلب قط لهؤلاء أو أولئك. لكن المفروض شئ والواقع شئ آخر، لأن الحكومات المتعاقبة في مصر، وبخاصة منذ عام 1952، عملت ما تستطيع من أجل "تأميم" النقابات واخضاعها لسيطرتها. والمفروض في النقابات أن تكون "طوعية" و"اختيارية" لكن المفروض شئ والواقع شئ آخر تماما، لأن مبدأ "الاختيار" تم إلغائه منذ البداية. بموجب القانون 319 لسنة 1952 إذا نضم ثلاثة أخماس العمال في مصنع ما إلي النقابة فإن باقي العمال يصبحون أعضاء بحكم القانون (هكذا بدون استئذانهم أو أخذ رأيهم). ووصلت هذه القضية إلي أروقة المحكمة الدستورية العليا التي أكدت في حكم منشور بالجريدة الرسمية في 27 أبريل 1995 عدم دستورية المادة 38 من قانون النقابات العمالية رقم 12 لسنة 1995، وأكدت في حيثياتها البالغة الأهمية "أن تكوين التنظيم النقابي لابد أن يكون تصرفا إراديا حرا لا تتدخل فيه السلطة العامة بل يستقل عنها ليظل بعيدا عن سيطرتها.. ومن ثم تتمخض الحرية النقابية عن قاعدة أولية في التنظيم النقابي". وتخلص المحكمة الدستورية إلي أنه من "حق كل عامل الانضمام إلي المنظمة النقابية التي يطمئن إليها، وفي انتقاء واحدة أو أكثر من بينها.. عند تعددها ليكون عضوا فيها وفي أن ينعزل عنها جميعا فلا يلج أبوابها وكذلك في أن يعدل عن البقاء فيها وينهي عضويته بها". مما سبق نستطيع أن نري الهوة الشاسعة بين الواقع وبين "الينبغييات". فعلي عكس "ما ينبغي أن يكون" نجد أن العضوية النقابية "الزامية"، وعلي سبيل المثال فأني كي اشتغل بالصحافة "يجب" أن انضم إلي نقابة الصحفيين الكائنة في 4 شارع عبدالخالق ثروت والتي لا يوجد غيرها. وعلي عكس "ما ينبغي أن يكون" فإن النقابة هي التي تعطي ترخيص العمل الذي لا يمكن مزاولة العمل دونه، وعلي سبيل المثال فإن نقابة الأطباء هي التي تعطي ترخيص مزاولة العمل لأي طبيب، في حين أن هذا الترخيص يجب أن يكون من صلاحيات هيئة علمية فنية متخصصة وليس هيئة نقابية، وهذا خلط غريب للأدوار والمسئوليات لا نجد مثيلا له في معظم أنحاء العالم. وهذا الخلط هو الذي يعطي لمجلس نقابة المهن التمثيلية شأنها شأن باقي النقابات المهنية الحق في أرزاق ومصائر خلق الله لأنها هي التي تمنحهم ترخيص مزاولة المهنة أو تمنعها عنهم. وهذا الخلط لا يمكن التخلص من آثاره السلبية إلا بمنح العيش لخبازه، أي أن يكون تصريح مزاولة أي مهنة منوطا بهيئة علمية علي المستوي الوطني. بينما النقابة هيئة مهنية ينضم إليها "من يشاء" من العاملين بهذه المهنة، مهما تكن جنسيته أو ديانته أو جنسه أو لونه، لأننا نتحدث عن رابطة مهنية أولا وأخيرا، وبالتالي يكون الشرط الوحيد للانضمام إليها هو العمل بهذه المهنة بصرف النظر عن أي أفكاره السياسية أو انتماءاته الفكرية أو ديانته أو جنسيته. وعلي سبيل المثال فإنني كصحفي "مصري" عندما أكون في بلد أوروبي مثل إنجلترا لمدة بضعة أشهر فقط، أجد أكثر من نقابة للصحفيين تتصل بي وتحاول اقناعي بالتمتع بمظلتها النقابية طوال الفترة التي أقضيها في بلاد الإنجليز دون أن تكون جنسيتي عائقا دون ذلك. وعموما فإن دور النقابة "المستقلة"، والتي تتميز العضوية فيها بأنها "اختيارية"، هو تطوير المهنة، وتحسين شروط وظروف العمل. هذا هو دور التنظيم النقابي من حيث الجوهر، أما النقابات التي تنتحل لنفسها حق الوصاية علي خلق الله واحتكار منح أو منع بترخيص مزاولة المهنة فهي نقابات عثمانلية لا علاقة لها بالديمقراطية أو مبادئ العمل النقابي وفي مقدمتها "الاختيار". ومن هذه الزاوية لا تكون نقابة المهن التمثيلية هي النموذج الوحيد لتلك النقابات العثمانلية، وإنما تشاطرها باقي النقابات التي أصبحت تحتاج نظرة جديدة وأكثر ديمقراطية بعد عقود من تأميم العمل النقابي.