منذ أن شيدت القاهرة لتكون عاصمة للدولة الفاطمية، وهي تسلب بروعة معمارها المتراكم عبر العصور أنظار الرحالة والمؤرخين والسياح، حتي غدت اليوم متحفاً لفنون العمارة الإسلامية، لكن تقادم الزمن عليها ترك أثره علي بنيتها وعلي آثارها، خاصة مع طغيان الأحياء الجديدة علي المدينة القديمة منذ القرن التاسع عشر. ها نحن اليوم نشهد إعادة احياء لهذه المدينة، فالاحياء renovation هو تحديث المبني أو مجموعة من المباني التاريخية والمنطقة المحيطة بها، وذلك بإعادة تجسيد البناء العضوي للمباني والروحي للمجتمع والمنطقة المحيطة بها، وانتشالها من أوضاعها المتردية اجتماعياً واقتصاديا وعضويا الاحياء الناجح هو برنامج شامل للنهضة الحضرية لا يتجاهل أية مشكلة تهدد المنطقة التاريخية ويفي باحتياجها الاجتماعية والاقتصادية والعضوية. ولا يتطلب ذلك بالضرورة إزالة أي هياكل بنائية أو إيجاد إحلالات جديدة. إن هذا المنطلق يقودنا إلي مشروع حديقة الأزهر الذي يتاخم منطقة الأزهر والباطنية والدرب الأحمر من جهة الغرب وطريق صلاح سالم وصحراء المماليك حيث أضرحة ومساجد ومدارس سلاطين المماليك إلي الشرق، فنحن هنا أمام منطقة فريدة من نوعها في العالم، كانت تتخللها تلال من الأتربة كثيراً ما كانت عبئاً بيئياً وعاملا طارداً لكل الأنشطة اقتصادياً أو اجتماعياً صحية، فحمل مشروع تحويل هذه التلال إلي حدائق تستلة روح الحدائق الإسلامية في مصر وشرق العالم الإسلامي والأندلس. وتعيد الحيوية إلي منطقة كانت مغلقة أمام كل تطور يمكن أن ينهض بها. إن الحديث عن مشروع الحديقة المترامية الأطراف أمر قد يكون مكرراً ولكن الأثر التي تتركه في إحياء المدينة القديمة هو الأكثر فاعلية في هذا السياق. فالعثور علي دينار ذهب فاطمي في موقع الحديقة أثناء الحفر بها، يقودنا إلي الرابط بين مشروع الحديقة والمدينة القديمة، وهو السور الشرقي للقاهرة الذي كان ركاماً أسفل تلال الدراسة والمباني المجاورة له وأحياه المشروع، هكذا يعود بنا المكان إلي ذاكرة التاريخ. التاريخ هنا له جذور أعمق من الفترة الأيوبية وهي فترة بناء السور الشرقي للحديقة. حيث اكتشف بالأبراج من 11 إلي 15 بالسور الحالي أحجاراً تحمل كتابات هيروغليفية تعود إلي عصر الدولة القديمة، جلبها بهاء الدين قراقوش ليشيد سور القاهرة الذي مر بناؤه بثلاث مراحل الأولي عند تأسيس المدينة علي يد جوهر الصقلي والثانية أتت تحت ضغط الزحف العمراني والحاجة لتجديد أسوارها علي يد بدر الجمالي في خلافة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، والأخيرة علي يد الوزير الأيوبي بهاء الدين قراقوش الذي أوكلت إليه مهمة إحاطة الحاضرتين اللتين تشكلان عاصمة مصر وهما القاهرة والفسطاط بسور واحد في عمل معماري كبير تضمن إنشاء قلعة بين الحاضرتين كانت هي مقر سلاطين مصر وحكامها منذ العصر الأيوبي وحتي القرن التاسع عشر الميلادي. نفذ هذا المشروع تحت السطوة الإدارية لرجل دولة عظيم هو قراقوش اشتهر بحدته وقوة شخصيته، حتي ألفت الكتب حولها لتحكي طرائف بعضها حقيقي والبعض الآخر مستوحي من الخيال العام، هذه الروايات جعلته تارة مجنوناً وتارة أخري ظالما متجبراً، كان أبرزها ما أورده غريمه السياسي اسعد بن حماتي في كتابه "الفاشوش في حكم قراقوش ". إن ما يهمنا هنا هو أنه لولا قوة هذه الشخصية لما أنجز مشروع تحصين العاصمة المصرية. فسور المدينة عمل جبار وخلاق في عصره تعكسه المقايسة الهندسية الفريدة التي حفظها لنا عماد الدين الأصفهاني كانت الديوان الأيوني والتي نصها ( لما ملك السلطان صلاح الدين مصر وأتاه الله علي الأعداء بهذا النصر رأي أن مصر القاهرة لكل واحدة منهما سور لا يمنعها، ولا قوة لأهلها تحميها وتردها وقال : لو أفردت كل واحدة بسور احتاجت إلي جند مفرد ونظر مجرد، والرأي أن أدير عليها سور واحد من الشاطئ إلي الشاطئ، ثم يتكل في حفظهما علي الله الكافي، فأمر ببناء قلعة في الوسط عند مسجد سعد الدولة علي جبل المقطم، فابتدأ من ظاهر القاهرة ببرج في المقسم وانتهي به إلي أعلي مصر ببروج وصلها بالبرج الأعظم ووجدت في عهد السلطان ثبتا رفعه النواب، وتكمل فيه الحساب، وهو دائر البلدين مصر والقاهرة، بما فيه من الساحل البحر والقلعة بالجبل تسعة وعشرون ألفا وثلاثمائة ذراع وذراعان شرح ذلك قياس ما بين قلعة المقسم علي شاطئ النيل و البرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف وخمسمائة ذراع، من القلعة بالقسم إلي حائط القلعة بالجبل من جهة مسجد سعد الدولة إلي البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتي ذراع، قياس دائر القلعة بمسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ومائتي وعشرة أذرع وذلك بطول قوسه وأبدانة وأبراجه من النيل علي التحقيق والتعديل، وذلك بالذراع الهاشمي، بتولي الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي. إن ما يخصنا في هذا المشروع الضخم هو السور الممتد بموازاة حديقة الأزهر والذي كان طوله عند بداية المشروع 950 مترا الظاهر فيها قمم عشرة أبراج كان المجلس الأعلي للآثار بدأ فيها مشروعاً طموحا العام 1996للكشف عنها، ومحاولة إنقاذ ما تبقي من السور من طغيان التلال الترابية من الشرق، وبناء الأهالي عليه من الغرب. لكن منذ العام 1998 تضافرت جهود مؤسسة أغاخان مع المجلس الأعلي للآثار، توجت العام 1999باتفاقية تعاون بين الجانبين وبدا الكشف عن السور يسير يعتبره أكثر سرعة حتي صارت الأجزاء المعروفة منة حالياً طولها 1600متر يتخللها 16 برجا يتراوح الأجزاء التي تم الكشف عنها من ارتفاعات هذه الأبراج بالسور ما بين مترين إلي تسعة أمتار. هذا يجعلنا يؤكد باطمئنان أن سور القاهرة بأجزائه المعروفة حالياً يعتبر أكبر سور أثري متبق بمدينة إسلامية. جاء الكشف عن السور ليكون إضافة حقيقية إلي مشروع حديقة الأزهر، فهو ذو بعد تاريخي يستطيع الزائر أن يري من استعراضه من أعلي الحديقة تطور المدينة إذا تأمل الناظر الباب المحروق والذي يعد محور اتصال رئيسي بين حديقة الأزهر والمدينة القديمة فسيري الناظر واحدا من أصغر وأجمل مساجد القاهرة، هو مسجد أصلم السلحدار بزخارفه الرائعة وبلاطات القاشاني برقبة قبته المتأثرة بطرز شرق آسيا، يقودنا هذا عبر سلسلة من المباني لنتوقف عند بناية مدرسة درب شعلان بناية من أوائل بناية من القرن العشرين متاخمة للسور لكن طراز ولاهوية تحمل بين جنباتها تشوها معماريا، ويستمر النظر ليلتقط عن بعد مئذنة مدرسة أم السلطان شعبان، ثم يتوقف مندهشاً مع تلك المجموعة المعمارية المتجاورة والتي تضم المسجد الأزرق ومدرسة خايريك بقيتها ذات الحجر المنحوت بالزخارف النباتية ثم قصر آليين آف الحسامي، ويستمر النظر ليلتقط قلعة صلاح الدين بأبراجها وقصورها جاثمة فوق تيه جبلية منفصلة عن جبل المقطم، وإلي الجنوب منها مدرسة السلطان حسن ومسجد الرفاعي ومسجد قايتباي الرماح. منظر مذهل تقدمه لنا حديقة الأزهر لمدينة ألف ليلة وليلة. لذا بات محتماً استكمال مهمة رعاية هذا المجتمع، من هنا جاءت فكرة البدء بمشروع تجريبي اختير له غير نافذة (أي مقفلة) هي حارة أسعد والتي تقع بين برجي 9،10 في السور، الحارة يقطنها العديد من الأسر وتقع بالباطنية، منازلها متهالكة بعضها يعود للقرن 19، المجاور منها للسور شكل امتداد عليه من حجرات ودورات سلالم وبعضها فضل صرف المخلفات الصحية في جسم السور، وهو ما أدي إلي تدهور الحالة الإنشائية للسور بصورة شديدة، يعود هذا لتوفر البنية التحتية في الحارة. يقوم المشروع علي إعادة تأهيل الحارة بخطوات تتوازي مع ترميم السور الأثري، فيجري من الحارة بالبنية التحتية بصورة سلبية سواء بالمياه أو شبكة للصرف الصحي أو الكهرباء كخطوة أولية، ثم إزالة تعديات منازل الحارة علي السور الأثري، بالتوازن مع إخلاء المساكن من سكانها، للبدء في ترميم هذه المنازل وإعادة الرونق بها الشئ اللافت للنظر في الحارة هو اعتماد سكانها علي الحرف التقليدية كمصدر للدخل خاصة صناعة تطعيم الخشب بالصدف وإنتاج من ذلك علب المجوهرات، والأثاث وغيرها، وهو ما سيجعل من الحارة عقب انتهاء هذا المشروع نموذجاً مثالياً يحتذي في مشروعات الحفاظ علي المدن القديمة. العلاقة بين الحديقة والمنطقة المتاخمة لها لم تقف عند هذا الحد بل تطورت بدعم من الصندوق المصري السويسري esdf لإقامة مشروع للتنمية الاقتصادية والبيئية الدرب الأحمر، بدأ هذا المشروع عام 1999 واستمر إلي العام 2003بمشاركة سويسرية، ثم رأت مؤسسة آغافان أن تتولي مدة إلي العام 2007م فمنطقة الدرب الأحمر طبقاً للاحصائياً تنتج 52% من منتجات الحرف التقليدية بالقاهرة، وهي تعد من أكثر مناطق المدينة التاريخية ذات الكثافة السكانية، ومن أكثر المناطق التي تعاني البطالة وعدم توافر البني التحتية بها بالصورة الملائمة. من هنا تنبع أهمية هذا المشروع الذي حددت أهدافه في النقاط التالية: - المساعدة في التوظيف وخلق فرص عمل جديدة. - دعم وتطوير الخدمات التي يحتاجها السكان. - تشجيع عمليات الارتقاء بالمستوي البيئي والعمراني. - توفير فرص الاستمرار لجميع البرامج والأنشطة الخاصة بالمشروع. لتنفيذ هذه الأهداف تم تأسيس شركة تنمية مجتمع الدرب الأحمر وجمعية أهلية تتولي الربط بين المجتمع والمشروعات التنموية للشركة.تبلور هذا النشاط من خلال عدد من البرامج منها: - برنامج التوظيف : يهدف برنامج التوظيف إلي الحد من ظاهرة البطالة في المنطقة وآثارها السلبية، كذلك يتيح فرصة للنساء اللاتي يعلن عائلات للكسب المادي، ارتكز المشروع بالدرجة الأولي علي توظيف أبناء المنطقة في مشروع الحديقة وترميم السور الأثري، لذا درب العديد منهم علي حرف نحت الحجارة والبناء وترميم الآثار فضلاً عن غيرها من الأعمال المرتبطة بالحديقة. - مشروعات الترميم وإعادة البناء : هذه المشروعات تهتم ببنايات أهملت ولا تحظي بقدر كاف من الرعاية، علي الرغم من أن طرزها المعمارية تشكل مرحلة لابد من دراستها ضمن حلقات دراسة تاريخ العمارة بالمنطقة. - برنامج خدمات المجتمع يسعي هذا البرنامج إلي حفز الأنشطة الاقتصادية في منطقة الدرب الأحمر علي النمو، إضافة إلي توفير رعاية صحية لأبناء المنطقة وتشجيع الارتقاء بمستويات التعليم والرعاية الاجتماعية. - الأنشطة المولدة للدخل: يهدف برنامج الأنشطة المولدة للدخل إلي تحسين أسلوب ونوعية المعيشة لسكان الدرب الأحمر، من خلال توفير القروض الخاصة بالمشروعات الصغيرة المحلية. - مركز التنمية والصحة العائلية - صمم مركز التنمية والصحة العائلية ليوفر الاحتياجات الغذائية والصحية للعائلات والأطفال في منطقة الدرب الأحمر، يقدم المركز خدمات منذ 7 مارس 2002في مجالات : أمراض النساء طب الأطفال، العظام. - الأنشطة الثقافية يري القائمون علي مشروع أنها أحد محاور تنمية المجتمع والوعي الاجتماع خاصة أنها فرصة للتعارف ومد جسور المشاركة، تم تكوين كورال وفرق للرسم الجماعي جمعت الكبار والصغار معاً، مجموعات للدراما، وسوف يسعي المشروع نحو الاهتمام بالأنشطة التعليمية والتدريبية التي ترتكز علي احتياجات المجتمع المحلي. - تنمية سوق التبليطة سوق التبليطة أو سويقة التبليطة لها تاريخ قديم، غير أن وجودها بين منشآت أثرية رائعة أبرزها وكالة السلطان قايتباي ومسجد أبوالد هب، والجامع الأزهر ووكالة الغوري. - الإسكان - لا تتكامل رعاية منطقة تراثية إلا بإعادة تأهل مساكنها المتهالكة، لذا فقد تضمن مشروع تنمية الدرب الأحمر توفير قروض ميسرة لترميم المنازل، ثم الانتهاء من ثلاثة منها، وجار العمل في احد عشر منزلا، وهناك خطة للعمل في أربعة وعشرين منزلاً آخر. يركز البرنامج علي معالجة المشاكل الإنشائية ومشاكل تسرب المياه، والآثار الناجمة عن الزلازل. ويتضمن أيضا إعادة الرونق لبعض الواجهات المعمارية المميزة في المنطقة.