هناك حقائق جديدة يجب أن يتم فهمها بما تستحقه، ففي الفترة الأخيرة أصبحت "أخبار مصر" هي الأكثر أهمية بالنسبة للمواطنين داخل الدولة، وأثبتت استطلاعات رأي أكدت مرارا أن الاهتمامات الحقيقية للمصريين تتعلق بشئونهم الداخلية، إنها تتمتع بمصداقية عالية، ووضح أن مشكلات الأجور والأسعار والبطالة والسكن والتعليم والصحة، أهم بكثير في سياسات الشارع من فلسطين والعراق والسودان وإسرائيل والمقاومة والاحتلال والمعايير المزدوجة، ولن يتم التمكن ببساطة من إعادة التاريخ إلي الخلف، بعد أن وضح أن هناك مشكلة مياه شرب في بلد النيل. إن القصة بسيطة، ففي كل دول العالم يهتم المواطن في الأساس بالشئون الداخلية المتعلقة بالسياسة العامة والشئون المعيشية، وأذكر أن مقالة نشرت ذات مرة في "نهضة مصر" حاول كاتبها أن يفهم كيف يفكر الناس في دولة مثل الفلبين، في ظل عدم وجود الصراع العربي _ الإسرائيلي ضمن دائرة اهتماماتهم، من واقع قراءة لما تنشره عادة صحف فلبينية تصادف أن قرأها في إحدي الطائرات، وكانت النتيجة بسيطة، الناس هناك _ وفي كل مكان _ يفكرون في أمورهم المعيشية أولا، وفي السياسات العليا بقدر ماتؤثر علي أحوال الداخل. إن التفكير في شئون الداخل يصل إلي حد الظاهرة في حالتين يتضح منهما أن الطبيعة البشرية واحدة، وأنها كانت تؤثر طوال الوقت في مصر، لكن كانت هناك نوعية من "المتلاعبين بالعقول" أو الفئة الضالة، تحاول أن تدفع الاهتمامات في الاتجاه المعاكس، وتمكنت من ذلك أحيانا، لكن ثمن تحويل الانتباه عن الحقائق كان كبيرا، فقد تم التمكن من شراء الوقت، لكن المشكلات تراكمت إلي حد خلق مطالب زائدة يوجد شك في أن يمكن أن تتم تلبيتها ببساطة. الحالتان المشار إليهما هما : 1 _ الحالة الأمريكية، فالفكرة السائدة هي أن المواطن الأمريكي يهتم فقط، أو في الأساس، بمشكلاته الداخلية الخاصة بالعمل أو التعليم والصحة أو الترفيه أو الضرائب، وأن الحملات الانتخابية الرئاسية أو التشريعية أو انتخابات الولايات بالطبع، تدار علي هذا الأساس، وأنه في الحالات التي اهتم فيها الأمريكيون بالخارج، كان الأمر يتعلق بجنود يقتلون في العراق، أو بأعمال إرهاب وصلت إلي نيويورك وواشنطن، علي الرغم من أن الولاياتالمتحدة قوة عظمي، ولديها سياسة خارجية حقيقية. 2 _ الحالة الإيرانية، ففي مؤتمر عقد مؤخرا حول السياسة الإيرانية في المنطقة العربية، تمت الإشارة فيه إلي حجم ماتنفقه إيران من أموال علي السياسة الخارجية، تحدث أحد الأساتذة المتخصصين في الدراسات الإيرانية، وكأن المواطن الإيراني " هابط من السماء" ولديه رسالة إقليمية، ويتفهم ماتقوم به حكومته، قبل أن يصطدم برأي آخر يؤكد أنه لايمكن تصديق ذلك، وأن الإيراني مواطن طبيعي، يهمه في الأساس شئونه المعيشية، ويريد التمتع بحصته من موارد بلده، ولن يقبل أن تؤثر أية سياسة خارجية عليها، وبعد أيام قليلة حدث تمرد البنزين في طهران. إن الحياة السياسية في مصر قد تعرضت لمشكلة تشبه الخدعة، فالطلبة في المدارس يدرسون مناهج تاريخية تبدو فيها السياسة وكأنها تتعلق فقط بعلاقات الدول، وتحركات الجيوش أو سير القادة. كما كان هناك تيار رسمي كان يحاول دائما الإيحاء بأن دور واتصالات وتحركات مصر في الخارج تمثل أهمية قصوي ذات أولوية وأننا غالبا مستهدفون، كما اعتاد نشطاء المدن علي الاهتمام بكل مايحدث في المنطقة، وخوض نقاش صليبي حول مايدور في العالم، وكأنهم لن يتمكنوا من النوم ليلا إذا لم تنته المعايير المزدوجة. وصلت تلك الظاهرة إلي حدود مرضية في بعض الأحوال، فقد بدا أن لدينا في مصر عددا من الأبطال الوطنيين، الذين يرفعون أصواتهم بصورة مدوية للدعوة إلي أهداف وهمية مثل الوحدة العربية، ويطلقون الاتهامات ضد الخونة والعملاء الذين يتآمرون علي مقدرات الأمة، ويقفون بالمرصاد للأعداء التاريخيين في تل أبيب وواشنطن، وأزلامهم من عناصر الطابور الخامس والمارينز في مصر، ويصورون العلاقات الدولية علي أنها مؤامرة تدار علي أساس مخططات وسيناريوهات شريرة، المهم أن كل ذلك يرتبط بتطورات خارج الحدود، وعند هذا الحد يمكن تفسير ارتباطات لاتبدو منطقية للوهلة الأولي. في إطار كل ذلك، كانت الصيغة المعتادة للتعامل مع تلك القضايا التي يطلق عليها في العادة " السياسة العامة"، في الصحف القومية ترتبط بالمشروعات التي يتم افتتاحها من جانب المسئولين، أو التصريحات الرسمية حول الإنجازات الكمية في مجالات التعليم والصحة والمرافق والخدمات، في الصفحات الأولي، وفيما عدا ذلك يتم تناول ماتبقي في إطار صفحة الدولة أو صفحات المحليات أو المحافظات، وهي صفحات تقدم أخبارا باردة حول المسئولين الوزاريين أو المحليين أيضا، ويتم التعامل معها داخل الصحف نفسها كأقسام أقل أهمية، تقدم في النهاية أخبارا مقتضبة، ولاتتيح لأي تحليل مهم أن يظهر. لم يكن من الممكن تحت أي ظرف من الظروف أن تتحول مشكلة تعاني منها قرية مصرية إلي خبر في الصفحة الأولي، أو أن تظهر صورة طفلة في مصر عانت من عملية جراحية مجحفة أو ضربة شمس لاسعة كخبر حقيقي يستحق الاهتمام، ضمن أخبار صفحة الدولة، مثلما يحدث في العالم، عندما يفقد طفل أو يسقط في حفرة، ولم يكن من الممكن أن تتحول أراء بعض الباحثين إلي تعليقات خبرية مثل التصريحات الرسمية، أو أن تتم كتابة مانشيت كامل حول حدث يبدو محليا للغاية، فقد كان الواقع الداخلي محل تجاهل، وظلت الشعوب علي هامش السياسة. أحد الأصدقاء الذين شاركوا في عملية الإعداد لظهور إحدي الصحف المستقلة في مصر، يحكي بعض الوقائع الداخلية التي تتعلق بمقاومة شرسة من جانب بعض المسئولين عن تحرير الصحيفة، لفكرة التركيز علي الداخل في مصر، والاهتمام بتوجهات الشارع، والذهاب إلي المحافظات، والاهتمام بخبر يتعلق بطفل موهوب بنفس قدر الاهتمام بتصريح وزير في الحكومة، فقد كان بعضهم لايتخيل إمكانية أن يحيا في هذا العالم بدون أن يهتم يوميا بما يفعله كل من بوش وشارون، وفي الواقع فإنه لم يكن يمكنه أصلا أن يدرك أن العالم علي وشك أن يتغير، وأن حقائق جديدة علي وشك أن تسود، وأن الداخل قد يكون رهان المرحلة التالية. إن السياسة الخارجية تعتبر مسألة شديدة الأهمية، خاصة بالنسبة لدولة مثل مصر، شاء قدرها التاريخ أن يضعها في موقع معرض، لايمكنها معه أن تهتم بالداخل دون أن تتحسب لما يجري حولها، فهي الأكثر تأثرا من ناحية، ويمكن أن تكون الأكثر تأثيرا من ناحية أخري، ولديها موارد شديدة الحساسية للتغيرات في الإقليم، وليس لديها خيار حقيقي يتعلق بالانكفاء علي الداخل، ووفقا لقول معروف فإن مصر "إذا لم تهتم بالاستراتيجية سوف تهتم الاستراتيجية بها "، لكن كل ذلك قد تم توظيفه بصورة تتطلب نقاشا. لقد عاد الاهتمام علي نطاق واسع بأخبار مصر، عبر الصحف المستقلة بالذات، التي قدمت صيغة مقبولة، بعيدا عن الكتابات المكفهرة ذات الطابع السياسي الصارخ التي ارتبطت بما كان يسمي صحافة المعارضة، قبل أن تنتقل إلي نوعية خاصة من الصحف حاليا، والتي كان الناس يرغبون في قراءاتها، لكنها تهتم في الأساس بالسياسة العليا جدا، ولاتكتسب مصداقية غالبا، في ظل المبالغات، والإثارة، وبين الصحافة القومية التي تعاملت طوال الوقت مع الداخل علي أنه محليات. الأهم أن أصبحت هناك فئة كاملة من الصحفيين المصريين المحترفين، المهتمين بأخبار الداخل، وبدأت الصور الخلاقة في الظهور، لتؤثر مثل المقالات، لكن الأهم أن تلك الفئة عرفت جيدا كيف تنشر خبرا أو تقريرا لايمكن تجاهله من جانب المسئولين الرسميين، وكيف تدقق بشدة في مصادر معلوماتها لكي لاتفقد مصداقيتها حتي لو كانت ستفقد جزءا من إثارة الموضوعات المتأخرة، وتجاوز توزيع صحف أخبار مصر حواجز ال 100 ألف نسخة، وبدأت الوثائق تصل جاهزة إلي مكاتب الصحفيين، ممن لديهم مشكلات أو قضايا أو معلومات، فقد بدأت فئات واسعة في التجاوب معها. لذلك كله، لايبدو أن مايحدث حاليا يمثل موجة سوف تنتهي، ولن تتمكن الألعاب القديمة من " الغلوشة " علي الطلب الحقيقي للمواطنين فيما يتعلق بالأخبار، وسوف تستمر علي الأرجح تلك التيارات الإعلامية، لتحول الموجة، إلي مرحلة أو عهد، وسوف يتحول إعلام الداخل إلي سياسة داخلية، فلن يصح في النهاية إلا الصحيح.