والآن جاء دور "بول وولفوفيتز"، ليكون آخر كبار المسئولين الأمريكيين الذين اضطروا لمغادرة مناصبهم القيادية. فهو شأنه شأن رئيسه السابق "دونالد رامسفيلد" الذي لم يغادر منصبه الوزاري في وزارة الدفاع (البنتاجون) إلا تحت وابل من السياط والانتقادات. وليس من الشطط في شيء أن تتخذ مغادرة وولفوفيتز هذه مجازاً ورمزاً علي طبيعة المشكلات التي تواجهها إدارة جورج بوش الحالية وهي تدخل خواتيم عهدها. وعلي الرغم من أن وولفوفيتز سيبقي رئيساً للبنك الدولي حتي نهاية شهر يونيو المقبل، إلا أنه حُرم من صلاحية اتخاذ أي قرارات رئيسية لها علاقة بأنشطة البنك خلال المدة المذكورة. وقد بدا واضحاً أن أيامه في البنك باتت معدودة، منذ أن تم الكشف في شهر أبريل المنصرم، عن دوره التنسيقي في رفع راتب صديقته "شاها رضا"، البريطانية العربية الأصل، التي تولت مسئولية قضايا الإصلاح في البنك، إلا أنه تم انتدابها إلي وزارة الخارجية الأمريكية، تفادياً لتضارب المصالح، علي إثر تعيين وولفوفيتز رئيساً للبنك. وإلي جانب ذلك، فقد استقطب وولفوفيتز خلال العامين اللذين أمضاهما في رئاسة البنك، عداءات لا حصر لها ولا عدد، سواء في أوساط موظفيه في البنك، أم من جانب المانحين الخارجيين، خاصة الأوروبيين منهم. وفيما يتعلق بسلوكه في علاقته بصديقته شاها رضا، فإن هناك ثلاثة أسباب يمكن سوقها في تفسير ذلك السلوك. أولها أنه تولي مسئولية رئاسة البنك، بعد أن كان نائباً لوزير الدفاع. وكان يعتقد حينئذ، أنه الأكثر مسئولية بين كبار المسئولين الأمريكيين، عن شن الحرب ضد العراق في مارس من عام 2003 لكن ما أن سارت الحرب في المسار الخاطئ وغير المتوقع لها، وتحولت إلي علقم في حناجر مسئولي الإدارة، حتي ثارت الاتهامات في وجه وولفوفيتز وغيره من المسئولين المرتبطين به مباشرة، بسوء الإدارة وارتكاب الأخطاء الفادحة في خطط التمهيد لغزو العراق. وما أن بدأت ولاية بوش الثانية، حتي تعين علي وولفوفيتز ونائبه "دوجلاس فيث" مغادرة أروقة وزارة الدفاع. وبما أن عدداً كبيراً من موظفي البنك الدولي، قد عرفوا بمعاداتهم للحرب، فإنه لم يكن مستغرباً ألا يقابل ترشيحه لرئاسة البنك بالحماس والترحيب. غير أن هذه معضلة كان يمكن السيطرة عليها، لاسيما وأن وولفوفيتز قد عرف عنه موقفه الأيديولوجي الواضح من الحرب، إلا أنه عرف عنه أيضاً كونه من أقوي وأشد المؤيدين للإصلاح والتحول الديمقراطي في العالم الإسلامي، تأسيساً علي خبرته السابقة، بوصفه سفيراً لبلاده في إندونيسيا، خلال إدارة الرئيس الأسبق "رونالد ريجان". لقد سبق لنا القول آنفاً في صدر هذا المقال، إنه ليس من شطط ولا مغالاة، أن ينظر إلي حادثة عزل وولفوفيتز من منصبه هذه، باعتبارها رمزاً مجازياً علي طبيعة المعضلات والمصاعب التي واجهتها هذه الإدارة، خاصة في خواتيم عهدها. فهاهي يشتد بها الضعف والهزال أكثر من ذي قبل، أمام المجتمع الدولي بأسره. وهاهم أعداء سياساتها وخصومها السياسيين يشتد عودهم أكثر من أي وقت مضي علي مناهضتها وتحديها، خاصة أن الدليل وراء الآخر يتوفر لهم علي سوء سلوك وأداء القائمين عليها. وما أكثر الحديث والآراء القائلة اليوم، إن إدارة بوش قد أهدرت قوة أميركا وامتيازها الدوليين، أكثر مما حدث في أي فترة من فترات التاريخ الأميركي. وتلك هي الأفكار التي يتوقع لخصومها "الديمقراطيين" مواصلة الدق والعزف عليها بلا انقطاع، خلال المعركة الانتخابية القادمة والتي ستكون بكل تأكيد معركة فاصلة، لاسيما أنه قد حلقت بهم الآمال عالياً، في بلوغ البيت الأبيض بحلول شهر نوفمبر من العام المقبل!