هذه هي مأساة الوضع الأمريكي الراهن في "أرض الميعاد"، إذ لم يسبق للموضوع العربي- الاسرائيلي ان كان اكثر حساسية بالنسبة لمصالحنا القومية ولامننا مثلما هو عليه الآن. ومع ذلك، فإننا نادرا ما كنا في وضع سيئ علي نحو فريد لإدارة ذلك الصراع، ناهيك عن حله، مثلما نحن الآن. ففي حقبة ما بعد 11/9 باتت القضية الفلسطينية تسوق المجندين إلي تنظيم القاعدة، وتساعد في توليد مستويات قاتلة من نزعة معاداة الامركة. لكن إدارة بوش، ولما يقارب السبع سنوات، ظلت تعلق يافطة "مغلق هذا الموسم" علي تفعيل دبلوماسية عربية- اسرائيلية جادة. وقد اظهرت مهمة وزيرة الخارجية الامريكية الاخيرة في الشرق الاوسط ان الادارة قد باتت منفتحة أخيراً علي الشأن العربي-الاسرائيلي. لكن مبادرة رايس، وإلي حد شبه مؤكد تقدم القليل جدا وتأتي متأخرة بأشواط. بينما أتعقب حراك رايس هذة الايام، فإن عليّ الاعتقاد بأنها تعرف هذا أيضاً علي الرغم من تفاؤليتها المعلنة. ولأنني كنت قد عملت مع ستة اسلاف سابقين لها في ملف المفاوضات العربية-الاسرائيلية، فانني اعتقد بأن من الواضح تماما ان الصعوبات التي تعترض سبيل التوصل الي انفراج درامي كثيرة، وأن الوقت أمام إدارة بوش بات قصيراً جداً، كما أن الفجوات بين الاسرائيليين والفلسطينيين أشبه بالمسافات بين المجرات. ولذلك، فان جهود رايس المتأخرة تواجه صعوبات طويلة الامد بشكل هائل، سواء لأن المنطقة تغيرت كثيرا جدا أو لأن الولاياتالمتحدة ظلت تقف علي الهامش لأمد مغرق في الطول. لماذا فشلت كامب ديفيد؟ بوصفي واحداً ممن خططوا لعقد قمة كامب ديفيد في تموز-يوليو 2000، فانني أدرك بألم أن عدم رغبة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في التفاوض، واوهام رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك حول انهاء النزاع الاسرائيلي الفلسطيني بتكلفة بسيطة، وادارة الرئيس بيل كلينتون حسنة النوايا، والضعيفة مع ذلك، كلها أمور أفضت الي فشل آخر وافضل فرصة توفرت للتوصل الي انفراج. وعليه، واذا كنت تعتقد بأن الدبلوماسية لا تجدي، فإن عليك أن تجرب الإهمال والتجاهل. وقد تباعدت السنون وتدانت، وأدت المواجهات الاسرائيلية-الفلسطينية الي جانب إهمال ادارة بوش لهذا الصراع إلي تخفيض فرص انهاء النزاع من فرص ضعيفة الي منعدمة تماماً. لعل جزءا من المشكلة يتمثل في أن "البرنامج الحاسوبي" للعلاقات الاسرائيلية-الفلسطينية قد تغير: ذلك أن الثقة بالنفس والثقة بالآخر وروح حل المشكلة التي اضفتها عملية أوسلو للسلام في عام 1990 قد استبدلت باحادية الجانب والخوف والغضب، وفقدان الامل في قدرة المفاوضات علي تغيير الحقائق الوحشية القائمة علي الأرض. لكن "المكونات الحاسوبية الصلبة" للنزاع قد تغيرت بدورها خلال الهوة التي شكلها غياب بوش. وقد تجمعت عوامل ارهاب العمليات الانتحارية واطلاق الصواريخ والخطف مع الاغلاقات وعمليات القتل المقصود ونمو الاستيطان من الجانب الاسرائيلي، لتجعل كلها من مسألة التعاون أمراً شديد الصعوبة. وكانت علامة هذا التدهور هي حركة "حماس" التي اصبحت تملك، ولا تزال، اليد العليا في صنع السياسات الفلسطينية منذ فازت في انتخابات كانون الثاني-يناير 2006. وقد أنتج دخول الحركة الراديكالية الاسلامية في الحكومة الفلسطينية -من دون نبذ الارهاب- شكلاً من أشكال الوحدة في السياسات الفلسطينية، لكنه ضمن ايضا استمرار النضال ضد اسرائيل. وبذلك اصبح الفلسطينيون يشترون السلام في الوطن بثمن إثارة الأزمة لدي جارهم القريب. الألم بلا حدود لتلك الأرواح الباسلة التي تقول إن اليأس والازمة قد دفعا الاسرائيليين والفلسطينيين الي الاقتراب اكثر الي إبرام صفقة في السنوات السبع الضائعة، فإنني لا أستطيع سوي القول بأني آمل بذلك. لكن خبرتي تشير الي خلاف ذلك، ففي صراع وجودي تحثه الذاكرة والهوية والدين والجروح الوطنية، تظل القدرات الاسرائيلية والفلسطينية علي امتصاص الالم والتسبب به للآخر هي قدرات بلا حدود. وعندما يصبح هذان الطرفان غاضبين أو خائفين، فإنهما لا يصبحان رحبي الصدر، وانما يصبحان متساويين. لقد قالت رايس ان "الظروف الكامنة" لصنع السلام "هي افضل الآن" قياسا مع ما كانت عليه في عام 2000. وذلك يذكرني ببيت غروشو ماركس الشهير: "من ستصدق .. انا ام عينيك الكاذبتين؟". ثمة القليل من المؤشرات الباعثة علي الأمل، خاصة المبادرة الجديدة للمملكة العربية السعودية، ورغبة بعض الدول العربية المؤيدة للولايات المتحدة في أن تصبح اكثر نشاطا. ولكن، وفي مقابل شعاعات الامل هذه، تلوح آفاق عاصفة كاملة من السلبيات التي ما فتئت تتجمع منذ سنوات. وفيما يلي المشكلت الأكثر إقلاقاً من بينها: قادة ضعفاء حتي لو كانت هناك ثمة صفقة ليتم عقدها، فإنه لا يوجد علي الارض من يعقدها. ذلك أن عصر السياسات البطولية في صنع السلام العربي الاسرائيلي قد ولي، الآن علي الاقل. وعلي أننا نري الكثير من الساسة الالمعيين، إلا أن هناك القليل من رجالات الدولة. فالعمالقة -انور السادات في مصر والملك حسين ملك الاردن ورئيسا وزراء اسرائيل مناحيم بيجن واسحق رابين- كلهم رحلوا، كما رحلت معهم حتي الشخصيتان الأكثر اتساماً بالعيوب مثل عرفات وارئيل شارون. ومع هؤلاء ذهبت المشروعية التاريخية، والشجاعة، والسلطة اللازمة لاتخاذ القرارات الكبيرة. وبدلا من ذلك، وعلي الجانب الاسرائيلي، شاهدنا رؤساء حكومات صغارا في السن ومفتقرين إلي الخبرة، مثل باراك وبنيامين نتنياهو وزعيم البلاد الحالي المتخبط ايهود اولمرت الذي يفتقر الي السلطة ويميل إلي السير بارتباك. أما في الجانب العربي، فتبدو الصورة اكثر قتامة. فقد تكشف الرئيس السوري بشار الاسد تقريبا عن كل الاخطاء الاستبدادية لوالده الراحل، لكنه لم يتكشف عن اي مما انطوي عليه والده من القوة. وفي الجانب الفلسطيني، يشكل محمود عباس، رئيس فصيل فتح المتداعي رجلاً طيباً يتعرض للتهميش علي يد حماس بشكل متكرر. لقد صنع عمالقة الامس التاريخ. اما أقطاب اليوم فإنهم يبدون مدفوعين بذلك التاريخ. انهم أسري وليسوا سادة لسياساتهم ودوائرهم الانتخابية. كما ان من الصعب رؤية أي شخص أفضل في الأفق المنظور. معيقون أقوياء في فراغ القيادة هذا، تسبب اللاعبون من غير الدول بنجوم الاضطراب. ذلك أن حماس وميليشات حزب الله اللبنانية الشيعية الراديكالية هما اكثر من مجرد متشددين، والذين استطاعوا في الماضي تأخير جهود صنع السلام فقط وليس قطع الطريق عليها تماماً. اما اليوم فقد أصبح هؤلاء لاعبين سياسيين خطرين، حيث تستطيع حماس ان تحد من، بل وحتي أن توقف جهود عباس لصنع السلام، كما أظهر حزب الله خلال حرب صيف 2006 ضد اسرائيل انه يستطيع احراج جيش اسرائيل وقصف شمالها. وتستطيع هاتان المجموعتان -المدعومتان من ايران وسوريا- خلق مشاكل ضخمة للزعماء الضعفاء الذين لا يبدون الرغبة أصلا في المجازفة. فجوات واسعة كانت الحكمة القديمة التقليدية هي أننا كنا نعرف كيف ستبدو اي صفقة سلام اسرائيلية-فلسطينية، وأننا كنا نحتاج فقط الي التوصل إليها، لكن اي شخص ما يزال يعتقد بان الاسرائيليين والفلسطينيين كانوا "قاب قوسين او ادني" من التوصل الي اتفاق في كامب ديفيد انما كان يعلق آمالا واهية جدا علي عملية السلام. والحقيقة الصلبة هي ان كلا من القضايا الاربع الشائكة التي اغرقت القمة -الحدود والقدس واللاجئين الفلسطينيين والأمن- انما تمثل عالما من الأعمال الجدية غير المتممة. (وهذا لا يعود الي الافتقار للمحاولة خلال سنوات كلينتون. وعندما أفكر في جهودنا لاقناع باراك وعرفات بان الطريقة لحل مشكلة من سيفرض سيادته علي المواقع الاكثر قدسية في مدينة القدس تكمن في تسليم امر السيادة عليها الي الله، لا اعرف عندئذ أأضحك ام أبكي). لقد كان امر التوصل الي اتفاق لانهاء النزاع صعبا جدا في عام 2000، كما يكاد يكون غير قابل للتفكير به في عام 2007 . امريكا غائبة الأمر الأخير، والذي ربما يكون الاكثر أهمية، وهو أننا لم نحصل بعد منذ كانون الثاني - يناير 2001 علي التزام امريكي بصنع السلام والذي كنا في حاجة اليه - امريكا تبدي رغبة في جسر الفجوة عندما تريد، وتكسر الرءوس عندما ينبغي ذلك. ويجب الاعتراف بان ادارة بوش قد ورثت والي حد شديد السوء، أسوأ ما يمكن تخيله من المساعدة العربية- الإسرائيلية: عرفات الحرون من جهة، وشارون "الجرافة" من جهة اخري، وحرب اسرائيلية-فلسطينية مستعرة بينهما. ومع ذلك، لم ير الرئيس بوش ابدا ان النزاع العربي-الاسرائيلي يحتل باي صورة من الصور اولوية في سلم اولوياته. حتي أنه لم يعتقد أبداً بعد احداث11 /9 والعراق بان الانخراط في صنع عملية سلام ربما يساعده في دفع قضايا الشرق الاوسط التي تهمه الي الامام. لم يحظ بوش، بالطبع، بالكثير من الفرص الواقعية. لكنه حظي بفرصة حقيقية واحدة بعد وفاة عرفات في تشرين الثاني - نوفمبر عام 2004 وانتخاب عباس خليفة له في كانون الثاني - يناير 2005 -فرصة حقيقية جدا لوضع اول زعيم لمرحلة ما بعد عرفات قيد الاختبار. ولكنها بدلا من التقدم بقدميها الاثنتين، راقبت واشنطن من الخط الجانبي، بنظرتها المزدرية للدبلوماسية الجادة فيما بعد 11 /9 ثم وهن عباس وارتقت حماس. وبالطبع، كان فساد فتح الخاص وسوء أدائها هو الذي افضي الي انتخاب حماس في كانون الثاني - يناير 2006، وقد ساعدت واشنطن والاسرائيليون في ذلك. الآن يريد البيت الابيض ان يتصرف. وثمة اسباب تحمله علي ذلك. فالتعامل مع الموضوع العربي-الاسرائيلي لن يقضي علي الارهاب الاسلامي الراديكالي او يصلح العراق او يحيل الديكتاتوريات الي ديمقراطيات، لكنه سيساعد في تهميش اعداء الولاياتالمتحدةالامريكية، وفي زيادة جرأة اصدقاء أمريكا، وفي اجتذاب اولئك الذين يجلسون علي المدرجات، وفوق كل ذلك في تعزيز صدقية الولاياتالمتحدة. لكنني مع ذلك لا أحبس أنفاسي انتظاراً، فمع تأرجح دورة انتخابات عام 2008، بات قلة من زعماء المنطقة يتوقعون الكثير من دبلوماسية البطة العرجاء. ومع احتمال ضئيل للنجاح، والكثير جدا من الاولويات الاخري، وعدم الرغبة طويل الأمد في التعامل بشدة مع العرب والاسرائيليين، فإنه لم تعد هناك الكثير من الفرص لتحريك دبلوماسية يعتد بها بعد الآن. مع ذلك، واذا كان بوش لا يزال راغباً في إحداث فرق، فإنه ينبغي أن يتأمل، ليس "خريطة طريق" واحدة (المصطلح الخاص بعملية السلام المدعومة من الولاياتالمتحدة، والتي لم يعد احد في المنطقة يؤمن بها بعد سنوات من غياب المشاركة الامريكية)، وانما عليه أن يتأمل خيارات ثلاثة. الأول: إن عليه ان يعين مبعوثا رفيع المستوي ومخولاً تماما بتحريك الموضوعات الاسرائيلية-الفلسطينية علي الارض، بما في ذلك وضع حد للعنف ولنشاط الاستيطان وتخفيف القيود علي تنقل الفلسطينيين وانعاش قطاع غزة والضفة الغربية اقتصادياً واطلاق سراح الرقيب الاسرائيلي جيلعاد شاليت المختطف منذ كانون الثاني - يناير 2006 من قبل حماس. ثانيا: علي بوش ان يساعد الدول العربية الرئيسية في تحديد الخطوات التي يترتب عليها اتخاذها باتجاه تطبيع العلاقات مع اسرائيل، مع تفكيك الجمود الحالي، بما في ذلك عقد اجتماع فوري بين مسئولين اسرائيليين ونظراء لهم من السعوديين. وأخيراً: علي رايس ان تبتكر قناة خلفية اسرائيلية-فلسطينية للبحث فيما اذا كان اي تقدم باتجاه التوصل الي صفقة دائمة حول القضايا الكبيرة سيكون ممكنا اذا ما دخلت واشنطن علي الخط ثانية وبهمة. في عام 2002، كان بوش قد طرح رؤية للحل الوحيد الممكن -اسرائيل وفلسطين تعيشان جنبا الي جنب- لكنه فعل القليل في ذات الوقت لتعزيز وترويج هذه الرؤية. والآن، بات يواجه الأفق شديد الواقعية، والمنطوي علي مشاهدة الإجابة الوحيدة والأفضل عن مسألة الصراع وهي تفقد صلاحيتها أمام ناظريه. ومن شأن ذلك أن يكون مأساة للولايات المتحدة واصدقائها، وبركة تنهال علي أعدائها.