عندما تعرض حفل زفاف عراقي للقصف من قبل الطائرات الأمريكية وأسفر عن سقوط 45 قتيلاً، فقد أدرج ذلك في إطار "الأضرار غير المقصودة" باعتبارها تكلفة جانبية للحرب لا مفر منها. وعندما قُتل جندي أمريكي بنيران جندي أمريكي آخر أثناء إحدي المعارك بأفغانستان، فقد أطلق علي ذلك الموت ب"نيران صديقة". لكن النيران الصديقة، كما سيتبين لاحقاً، قد تتحول إلي عنصر إحراج لبعض كبار الضباط إلي درجة تدفعهم إلي إبقائها طي الكتمان، أو نسج قصص حولها لا أساس لها من الصحة. وهذا بالضبط ما حدث في حالة "بات تيلمان" بعدما كشف النقاب عنها تحقيق أجراه المفتش العام بعد مرور ثلاث سنوات علي سقوطه في ساحة المعركة. فقد بتنا نعرف اليوم أن الظروف المحيطة بمقتل "تيلمان" تغيرت كلما وصلت إلي ذوي الرتب العليا في المؤسسة العسكرية. وفي الوقت الذي انتهي فيه المفتش العام من إعداد تقريره ثبت أن هناك أربعة جنرالات إلي جانب خمسة ضباط آخرين تورطوا في تلفيق كذبة وفبركتها علي مقاسهم. ورغم أن تفاصيل الحادث لم يكشف عنها إلي الآن، ومازالت حبيسة الأدراج في البيت الأبيض والبنتاجون، فإنه من الواضح أن كبار الضباط تهيبوا من ردة فعل الأمريكيين إذا ما اكتشفوا أن بطلاً مشهوراُ في رياضة كرة القدم مثل "بات تيلمان" قد لقي حتفه بنيران أمريكية. فقد لا يتقبل الرأي العام الأمريكي قيام جنود أمريكيين بقتل أحد الشبان الموهوبين الذي تعج به وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة حتي ولو كان عن طريق الخطأ. لذا تم تلفيق قصة خيالية قُلد بموجبها "تيلمان" ميدالية "النجمة الفضية" نظير شجاعته بعد موته، ورقي إلي رتبة عريف. والواقع أن ذلك قد لا يكون غريباً في ظل عالم يحفل بالقصص الخيالية، ولا يتردد فيه البعض عن تلفيق القصص الوهمية هرباً من الحقائق المزعجة، حتي ولو كان ذلك علي حساب النزاهة والشفافية التي يفترض توفرها في السياسيين، وبدرجة أكبر لدي المؤسسة العسكرية التي تفخر بصرامتها وانضباطها. قصة أخري لفقها الجيش تتعلق بالنهاية السعيدة للمجندة "جيسيكا لينش" التي صورت علي أنها بطلة حقيقية قاتلت القوات العراقية بعد أن نصبوا لها كميناً، حيث اعترفت بنفسها أن "قصة رومبو الصغيرة التي قاتلت ببسالة" هي أبعد ما تكون عن الصحة. وكأن ذلك لا يكفي حولت قصة "لينش" إلي فيلم تليفزيوني، رغم شهادتها أمام الكونجرس التي أبدت فيها دهشتها من حياكة هذا الكم من الأكاذيب حول تجربتها في العراق. وعندما أتأمل هذه الحوادث المتفرقة وهذه القصص التي تنسج من وحي الخيال قصد التهرب من كشف الحقائق أمام الشعب الأمريكي أتذكر الكاتبة "سيسيلا بوك" في مؤلفها القيم "الكذب: الخيار الأخلاقي في الحياتين العامة والخاصة" وما كتبته فيه من أن "الثقة والنزاهة من القيم الثمينة التي يسهل إهدارها ويصعب استردادها".