كتبت الدكتورة مني مكرم عبيد مقالا بعنوان "قرارات الرئيس ومستشارو السوء" في جريدة "المصري اليوم" (16/11/2006) تحدثت فيه عن الرئيس مبارك ومستشاريه الذين "يحاولون أن يفسدوا ما يحاول الرئيس إصلاحه" وقالت "وفي كل مرة يأخذ فيها الرئيس قراراً لصالح الوطن ولصالح الشعب، يلتف حوله هؤلاء المستشارون ويفرغونه من مضمونه ويحولونه إلي سراب، حدث ذلك حينما هاتف الرئيس مبارك جلال عارف نقيب الصحفيين وأبلغه بأنه سيصدر قراراً بإلغاء الحبس في قضايا النشر .. ولكن أبي مستشارو السوء وترزية القوانين إلا أن يفسدوا علي المصريين فرحتهم وظل وعد الرئيس معلقاً بين السماء والأرض .. ولم ينقذ الصحفيين من أعداء حرية الصحافة سوي تدخل الرئيس مرة ثانية .. وتكرر نفس المشهد بحذافيره في تعديل المادة 76 .. وكان قرار الرئيس كفيلاً بأن ينقل مصر إلي مرحلة جديدة لم تشهدها في تاريخها، ولكنه لم ينجح في الإفلات من براثن مستشاري السوء والترزية، فأجهزوا عي قرار الرئيس .. ولأن مستشاري السوء أفسدوا علي المصريين فرحتهم واغتالوها في مهدها بتعديلاتهم الجهنمية للمادة 76 عاد الرئيس مبارك ليتدخل مرة أخري من أجل إعادة الأمور إلي نصابها الصحيح ..." وختمت مقالها بمناشدة الرئيس "أبعدهم عنك واعزلهم من مناصبهم واحم الوطن من شرورهم وانقذ مصر من حبالهم وحيلهم". أظن أن نفس السيناريو يتكرر مع البرنامج المصري لإنشاء محطات نووية لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر الذي كشف سيادة الرئيس في حديثه مع رؤساء تحرير الصحف في رحلة العودة من كازاخستان عن أسباب توقفه عام 1986 - قبيل أيام من موعد إعلان نتيجة المناقصة العالمية لإنشاء محطة نووية في الضبعة - بقوله "الخبراء المصريون في هذا المجال وخاصة العاملين منهم في الخارج في محطات مماثلة أو من لديهم خبرة في هذه المجالات في ذلك الوقت نبهونا عدة مرات إلي أخطار التسرب الإشعاعي من هذه المحطات وكان ذلك معروفا بالفعل في العالم، وهو ما جعلنا نفكر مرة أخري ..." (الأخبار9/11/2006)، وقد نجح مستشارو السوء هؤلاء في إيقاف البرنامج النووي لعقدين خسرت فيهما مصر الكثير من ثروتها البترولية الناضبة، وضيعت فرصة إحداث نقلة ضخمة في جودة الصناعة المصرية وإمكاناتها بما يزيد من قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية من خلال برنامج وطني طويل المدي لإنشاء محطات نووية لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر تتصاعد فيه نسب التصنيع المحلي طبقا لخطة واضحة وملتزم بها، إضافة إلي توجيه ضربة للمستقبل ولإمكانات التنمية المستدامة في مصر والتي لا يمكن تحقيقها إلا بتوفير مصادر يعتمد عليها من الطاقة والمياه. بسبب هذه النصيحة المشئومة عجزت الدولة عن إخلاء الموقع الذي تم تخصيصه عام 1981 بقرار جمهوري لمشروع المحطة النووية بالضبعة من واضعي اليد الذين كانت قد صرفت لهم تعويضات عن المباني والمزروعات القائمة وقت صدور القرار الجمهوري وظل الموقع نهبا للتعديات وللإشغالات غير القانونية، وتفاقم الأمر بتقاعس محافظة مطروح _ وهي الجهة الإدارية المعنية _ عن تنفيذ قرارات الإزالة الصادرة، بل ومطالبتها باستغلال بعض الأراضي داخل الموقع استغلالا تجاريا في تعد صريح علي القرار الجمهوري المشار إليه، ويبدو أن الرئيس قد علم بهذه التجاوزات فأصدر قراره في منتصف يوليو 2003 إلي القوات المسلحة بإخلاء الموقع وهو ما تم بالفعل في أوائل أغسطس 2003 مما مكن الدولة من إحكام سيطرتها علي هذا الموقع الحيوي لأول مرة منذ صدور قرار رئيس الجمهورية بتخصيصه للمشروع النووي، مما أعطي الانطباع وقتها بأن هذا مؤشر لقرب البدء في تنفيذ هذا المشروع القومي الهام. لم ير مستشارو السوء في هذا القرار إلا فرصة ل "تسقيع" الموقع و"تسليكه" من مشاكل الإشغالات الغير قانونية بحيث يمكن بيعه خاليا من الموانع لمستثمرين أجانب، وبالفعل لم يمض عام علي هذا القرار إلا وكان المهندس/ أحمد المغربي وزير السياحة وقتها يصطحب محافظ مطروح ووفدا أجنبيا مجهول الهوية واتجهوا مباشرة إلي مواقع يبدو أنها كانت محددة سلفا، كمقدمة لتفكيك المشروع وتحويله إلي منتجع سياحي باستثمارات أجنبية، وهو ما اعترف به المهندس أحمد المغربي وزير السياحة وقتها في حديث مع جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 5 أكتوبر 2004 حيث قال انه زار الموقع بصحبة وفد أجنبي ومحافظ مطروح لاستطلاع إمكانيات الموقع السياحية وما إذا كان يصلح لإقامة منطقة سياحية، وأضاف قائلا "وجدت أن الموقع يصلح لدخوله ضمن خطة تنمية الساحل الشمالي". ما ان تسرب هذا الخبر حتي انطلقت حركة كبري للتضامن مع البرنامج النووي المصري ودفاعا عن موقع الضبعة، وبلغت قمة هذا التحرك في رسالة مفتوحة للرئيس مبارك وقع عليها نحو مائة شخصية من النخبة العلمية والفكرية والثقافية والسياسية ومنهم ثلاثة من الرؤساء السابقين لهيئة الطاقة الذرية، وهو ما كان بمثابة قبلة الحياة لبرنامج المحطات النووية المصري، فقد نجح الرأي العام بقيادة النخبة الوطنية الواعية في إفشال هذا المخطط كما نجح في إفشال مخططات جهنمية سابقة كمشروع هضبة الأهرام، ومشروع توصيل مياه النيل لإسرائيل، ومشروع هدم مستشفي الشاطبي. بعد عامين من إفشال هذه المؤامرة ناقش المؤتمر الرابع للحزب الوطني الديمقراطي ورقة عن سياسات الطاقة التي طرحت بشكل قوي، إحياء برنامج المحطات النووية المصري، بعد أن راحت السكرة وجاءت الفكرة وتبين أن الإدعاءات التي روج لها البعض عن احتياطيات مهولة من الغاز الطبيعي وما أعقبها من التوسع في تصدير الغاز بأسعار بخسة لسنوات قادمة، كانت في أحسن الأحوال تفاؤلا غير مبرر وفي أسوئها كذب صريح، وبعد جلسات مطولة من خبراء في جميع المجالات التقت كل وجهات النظر ونتائج الدراسات في طريق واحد_,_ أوصل إلي نهاية مفادها ضرورة اللجوء إلي الطاقة النووية كخيار إستراتيجي يؤمن حاجة البلاد المستقبلية من الطاقة ويخفف الضغط علي مصادر الطاقة الأخري_، وهي نفس الأسباب التي سبق أن ساقتها النخبة العلمية والفكرية والثقافية والسياسية دفاعا عن البرنامج النووي وموقع الضبعة. بمجرد أن تم الإعلان عن النية لدراسة البديل النووي تمهيدا لاتخاذ قرار سياسي بشأنه، بدأ مستشارو السوء بتسريب أخبار عن إمكانية بيع موقع الضبعة للاستخدامات السياحية (المخطط القديم) واستخدام عائد البيع لتمويل إنشاء محطات نووية في مكان آخر، وهو ما سبق أن حذر منه المهندس عماد عطية (المصري اليوم 29/10/2006) ويبدو أن الدكتور أحمد نظيف يدرس هذه النصيحة كما قال أمام مؤتمر حوكمة الشركات (الجمهورية 1/11/2006). تأتي هذه النصيحة الغير أمينة من مستشاري السوء مناقضة لآراء العلماء والمتخصصين _ الذين كان يجب استشارتهم في المقام الأول - بضرورة الإبقاء علي موقع "الضبعة" باعتباره المكان الأمثل لبناء المحطات النووية وتحذيرهم من أي محاولة لنقل الموقع إلي مكان آخر، حيث يقول الدكتور محمد منير مجاهد مدير موقع الضبعة بهيئة المحطات النووية أن موقع الضبعة قد تم اختياره بعد دراسات وثبتت صلاحيته وتأهيله لإقامة محطات نووية وخواصه معروفة بحيث يمكن تصميم المفاعل عليه أما أي موقع آخر فيحتاج إلي 4-5 سنوات للتأهيل (الأهرام 24/9/2006)، بينما يقول الدكتور فاروق عبد الرحمن رئيس المركز القومي للأمان النووي "أري أن موقع الضبعة كان أنسب اختيار من جميع النواحي" (الوفد23/10/2006)، وهو ما يؤكده كل وزراء الكهرباء والطاقة الذين تولوا الملف النووي خلال الربع قرن الماضي، حيث يقول الدكتور حسن يونس "أكدت جميع الأبحاث والدراسات أن موقع الضبعة هو أفضل موقع لإقامة محطات نووية" (أخبار اليوم 28/10/2006)، ويقول الدكتور علي الصعيدي "لا يوجد موقع يصلح لإقامة المشروع النووي في الوقت الحالي غير موقع "الضبعة" .. ويضيف لماذا سندرس مواقع أخري لإقامة المشروع طالما أن لدنيا الموقع الجاهز" (المصري اليوم 27/10/2006)، ويقول المهندس ماهر أباظة "من يفكر في إيجاد موقع بديل للضبعة فلن يكون بنفس مثالية هذا الموقع ودقته" (أخبار اليوم 28/10/2006). خلاصة القول أن الاستيلاء علي موقع الضبعة يعني في واقع الأمر تصفية البرنامج النووي المصري وأنه لن يكون لدينا برنامج نووي وأي كلام بخلاف ذلك يعد كلاما لا قيمة له ولا يجب الالتفات إليه، لقد تدخل الرئيس لإنقاذ موقع مشروع المحطة النووية بالضبعة من التعديات والإشغالات غير القانونية وتقاعس أجهزة الحكم المحلي، ثم تدخل مرة ثانية لإيقاظ البرنامج بعد طول سبات، ولا يمكن أن نظل نطالب السيد الرئيس بالتدخل كل مرة لإصلاح ما أفسده المستشارون في البرنامج النووي وغيره من القضايا المصيرية والهامة، ولكننا نضم صوتنا إلي صوت الدكتورة مني مكرم عبيد ونناشد سيادة الرئيس أن يبعد هؤلاء المستشارين عنه وأن يعزلهم من مناصبهم ويحمي الوطن من شرورهم وينقذ مصر من حبالهم وحيلهم.