إذا كنت عزيزي القارئ من سكان شارع الملك فيصل أو شارع الهرم فلابد أنك تكتوي بنار الميكروباصات التي تقطع الشارعين جيئة وذهابا وعلي زجاجها الأمامي لافتة كبيرة تفقأ عين أي حاقد أو حسود مكتوب عليها خط السير من ميدان الجيزة إلي آخر شارع فيصل "أو شارع الهرم".. وقبل شهور كانت تعريفة ركوب الميكروباص خمسة وعشرين قرشا لكن الحكومة تكرمت وتعطفت ورفعت التعريفة إلي خمسين قرشا وقبل أن يجد الركاب فرصة للشكوي التي لن يستجيب لها أحد قرر السائقون كده مع أنفسهم تقسيم خط السير إلي أربع محطات رئيسية وتغيير ندائهم التاريخي من "فيصل.. آخر فيصل" إلي "طالبية.. طالبية" أو "طوابق.. طوابق".. وبالتالي فإن المواطن الذي يريد أن يركب حتي آخر الشارع عليه أن يدفع جنيهين وليته يدفعها في سيارة واحدة لكنه سيضطر إلي ركوب أربع سيارات!! الغريب في الأمر أن الناس لم تعترض.. وتعاملوا مع الموضوع وكأنه فرمان لا يقبل النقاش والأغرب بل والمضحك أن الركاب اعتادوا علي أن يركبوا حتي المحطة التي يحددها السائق فإذا وصلوا إليها تجدهم يسألون السائق ببراءة وحب شديدين "هتكمل يا أسطي؟"، فإذا كانت إجابة قائد المسيرة أقصد الميكروباص بالإيجاب أخرجوا خمسين قرشا جديدة ومنحوها له.. وهكذا يتكرر الأمر في المحطات الأربع! واقعة قد تبدو مضحكة أو ربما اعتبرها البعض من غير مستخدمي الميكروباص في تنقلاتهم تافهة ولا تستحق النقاش.. لكنني أري أن دلالاتها خطيرة.. لا تنحصر فحسب في الكلام الروتيني عن ارتفاع الأسعار واستغلال القطاع الخاص للمواطن الفقير.. لكن الدلالة الأخطر تكمن في تراجع دور القانون في الشارع المصري.. فمجرد سائق قد لا يجيد كتابة اسمه نجح في اختراع قانون خاص به.. وهو للأمانة لم يخالف قانون الدولة.. ولم يرفض التعريفة التي حددتها له السلطات المختصة.. لكن ابتكر حلا مصريا خفيف الدم هو تقسيم خط السير إلي محطات قصيرة تضاعف له أجره دون أن يتهم بأية مخالفة! تسألني ولماذا لم يلجأ الركاب إلي رجل القانون ليحميهم؟ أقول لك إن القانون يمثله في الشارع أمين الشرطة الذي لا يتوقف أغلبهم عن جمع الإتاوات من السائقين في غدوهم ورواحهم.. وسأفترض أن هناك أمين شرطة شريفا عفيفا ذهب لإنقاذ ركاب الميكروباص من جشع السائق وقد شغلتني المسألة فلجأت إلي سائق ميكروباص أسأله الرأي والمشورة وتعمدت أن اتحدث بأدب شديد معاتبا له علي قيامه هو وأقرانه بمضاعفة الأجرة مرتين وهو ما يجني ثماره المواطن الفقير.. فقال لي وأشهد أن مناقشته معي كانت ودية إلي حد بعيد يا باشا إحنا غصب عنا.. الناس مش عارفة حاجة!