أرادت الولاياتالمتحدة منذ تفردها بالقيادة العالمية الجديدة بعد انهيار الإتحاد السوفيتي إعادة تشكيل مناطق العالم وفقا لهواها ومصالحها الشخصية . وعمد الرؤساء الأمريكيون علي مر السنوات الماضية علي التدخل في المناطق التي تشهد نزاعات وصراعات زعما منهم أن هذا يدخل في نطاق الواجب المقدس المفروض علي زعيمة العالم الجديدة . وتنافس قاطنو البيت الأبيض علي إيجاد المبررات والمسوغات التي تقنع الرأي العام الأمريكي بجدوي تدخلهم . وكان نتيجة ذلك أن عبئت النفوس وشحنت القلوب بمشاعر المقت والكراهية تجاه كل ما يمت للشيطان الأكبر بصلة . ونشأ جيل من المتشددين الإسلاميين راحوا يخططون ويدبرون لاستهداف المصالح الأمريكية في شتي أنحاء العالم . وشهد يوم الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001 ضربة قاصمة في صميم القلب الأمريكي بعد أن أقلعت طائرات أمريكية الصنع من مطارات أمريكية لاستهداف برجي التجارة العالميين ومبني وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) . ومن فرط ذهوله جراء ما حدث أخطأ الرئيس الأمريكي جورج بوش عندما صرح بأنه علي موعد مع مرحلة جديدة من الحملات الصليبية التي سوف تشنها بلاده من اجل القضاء علي الإرهاب . وانطلقت اليد الأمريكية الغاشمة صوب أفغانستان للقضاء علي حركة طالبان التي كانت مسيطرة علي الأوضاع اَنذاك . وبعد نجاحها في أفغانستان أرادت الإدارة الأمريكية أن تستكمل مخططها الرامي إلي إعادة صياغة تاريخ الشرق الأوسط تحت مسمي الشرق الأوسط الجديد. وفي عام 2003 اتخذت الولاياتالمتحدة بالتعاون مع حليفتها الدائمة بريطانيا قرار غزو العراق بدعوي الإطاحة برئيسها السابق صدام حسين ووضعت الإدارة الأمريكية في حسبانها كافة الإحتمالات الممكنة لما سوف يحدث بعد الغزو . وعلي الرغم من ذلك تجاوزت الأحداث علي الساحة العراقية كل ما جال في خاطر الأمريكيين والبريطانيين من توقعات بعد أن غرقت بغداد وجميع المدن العراقية في حمامات الدم وعم الدمار كافة أرجاء البلاد . ومع ازدياد الخسائر الأمريكية في العراق أعاد البيت الأبيض التفكير في استراتيجيته المتبعة هناك واكتشف أن المعادلة العراقية لم تخلص إلي النتائج المرجوة بسبب غياب عنصر أساسي منها وهم الشيعة . فمن ناحية أرادت الولاياتالمتحدة تحجيم الشيعة المتنامية قواهم خاصة في إيران المتمسكة بحقها في امتلاك التكنولوجيا النووية لإستخدامها في الأغراض السلمية علي حد تصريحات مسئوليها . ومن ناحية أخري رغبت الإدارة الأمريكية في تأليب شيعة العراق علي سنته حتي تستنزف قوة الطرفين في صراعاتهم الجانبية ويسهل ترويضهم أو إملاء الشروط عليهم . ومرة ثانية أخطأت الإدارة الأمريكية في حساباتها التي أغفلت كما يري محلل صحيفة الفاينينشال تايمز ديفيد جاردنر سيناريو خطير ومحتمل حدوثه في العراق . فبعد انتهاء العهد " الصدامي " في العراق الذي ساد خلاله هيمنة للسنة علي مقاليد البلاد شعر الشيعة أن دورهم قد حان للبروز علي السطح بعد فترة بيات شتوي طويلة أعقبت انهيار الدولة الفاطمية في القاهرة عام 1171 م . ويضيف جاردنر أن الإدارة الأمريكية وكذلك الإدارة البريطانية لم يدركا أن الصعود الشيعي في العراق قد يعزز من موقف النظام الإيراني بل وتجاهل مسئولون أمريكيون اَراء خبراء الإستخبارات الذين أكد بعضهم علي خطورة حدوث انقلاب في موازين القوة داخل العالم الإسلامي . ونقل جاردنر عن أحد المسئوليين الأمريكيين قوله خلال مقابلة مع أحد خبراء الإستخبارات الأمريكية في بغداد " انتم يارجال المخابرات كل ما تعرفونه هو التاريخ أما نحن من نصنع التاريخ نفسه" . ويري المحللون السياسيون أن ما يحدث حاليا في لبنان امتداد لتأثير النظام الإيراني الشيعي الذي دانت له الهيمنة في أعقاب التعامل الخاطيء من قبل صانعي القرار الأمريكي مع الوضع في العراق . ويستند المحللون إلي المواقف العربية في كبريات البلدان السنية كمصر والسعودية اللتان تبنتا موقف مناهض للعملية التي قام بها حزب الله والتي علي إثرها حاولت إسرائيل تبرير عدوانها علي لبنان . ومن خلال القصف الإسرائيلي العشوائي علي مدن الجنوب اللبناني والضاحيةالجنوبية لبيروت اتضح أن الأوامر الأمريكية تقتضي القضاء ليس فقط علي مقاتلي حزب الله ولكن أيضا علي كافة معتنقي المذهب الشيعي في لبنان . وليس أدل علي ذلك من تأكيد احد المسئولين الأمريكيين بأن التخلص من حزب الله يعني التخلص من ربع سكان بلاد الأرز . وفي محاولة للربط بين الأحداث في العراق ولبنان سوف نجد أن نموذج حزب الله يتكرر مرة أخري في بلاد الرافدين علي يد الزعيم الشيعي الشاب مقتدي الصدر الذي يقود جيش المهدي كمقاومة في وجه المحتلين الأجانب . وخلال الأسبوع الماضي امتلأت شوارع بغداد وجنوب العراق بمئات الاَلاف من المتظاهرين الشيعة المؤيديين لحزب الله . ولا ينتمي إلي علم الكثيرين أن حزب الدعوة العراقي الذي يترأسه رئيس الوزراء نوري المالكي يعد أحد المساهمين في تأسيس حزب الله . لقد أثبت المسئولون بالبيت الأبيض صحة المثل القائل " صاحب الصنائع السبع لا يتقن أيا منها " . فلقد زعم هؤلاء انهم دعاة الديمقراطية في العالم وحاولوا فرض ديمقراطيتهم رغم أنف إرادة الشعوب ، فاعترضوا علي حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) علي الرغم من انتخابها من قبل الفلسطينيين لتدير الحكومة الجديدة . وفي العراق هاجمت إدارة بوش كتائب بدر التابعة للمجلس الأعلي للثورة الإسلامية لأنها مليشيات شيعية متحالفة مع إيران في حين انتخب العراقيون هذه الكتائب لتكون عضوا في الحكومة العراقية الجديدة . وفي لبنان وضعت الولاياتالمتحدة حزب الله الشيعي علي لائحة المنظمات الإرهابية ومنحت اسرائيل أسلحة فتاكة من أجل اجتثاث الحزب المنتخب شعبيا في الإنتخابات التشريعية التي جرت العام الماضي . وزعم القادة الأمريكيون أنهم قادة عسكريون لهم باع طويل في الحرب والنزال . فجاءت أعمال العنف في العراق بالتزامن مع مثيلاتها في أفغانستان لتدحض هذه المزاعم وتلقي بها أدراج الرياح . وأخيرا زعم " فتوات " أمريكا أنهم صانعو التاريخ الجديد المعاصر لكن إرادة الشعوب الحرة أبت أن تتحقق المطامع الأمريكية . فتمسك العراقيون بالمقاومة المشروعة ورفضوا الدعوات الأمريكية بتقسيم العراق إلي ولايات فيدرالية . وانصهر الفلسطينيون بحماس وقاوموا الحصار الإقتصادي المفروض عليهم بإرادة أمريكية معلنين تمسكهم بالحكومة التي جاءوا بها . ورفع اللبنانيون هاماتهم بعد المقاومة الباسلة التي أبداها حزب الله خلال معارك برية مع القوات الإسرائيلية وامتثل الحزب لموافقة الحكومة اللبنانية علي القرار الأممي رقم 1701 علي الرغم من جور بعد بنوده وذلك للحيلولة دون حدوث انقسام وخلاف يترتب عليه عواقب وخيمة . ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تتحرك وفقا لمصالحها الشخصية التي تتضمن أيضا الحفاظ علي الأمن الإسرائيلي كأحد أهم أولوياتها . وعندما تقر الولاياتالمتحدة ثوابتها مثل اعتبار حماس وحزب الله وكتائب بدر حركات إرهابية تنطلق من أن كافة هذه الحركات تربطها علاقات وثيقة مع طهران . يبرهن علي ذلك أن موسكو قامت خلال الشهر الماضي بالإعلان عن لائحة تضم التنظيمات الإرهابية في شتي أنحاء العالم لم يرد فيها حماس أو حزب الله . وفي أعقاب صدور القرار 1701 القاضي بوقف العمليات الحربية بين إسرائيل وحزب الله بدأ الحديث في إسرائيل عن هزيمة تاريخية منيت بها تل أبيب علي يد حزب الله . وذكر ضباط كبار بالجيش الإسرائيلي أن الولاياتالمتحدة هي التي دفعت إسرائيل إلي هذا النفق المظلم وعليها أن تخرجها منه . وأعرب اَخرون عن أن قرار الهجوم البري الموسع علي الجنوب اللبناني جاء تحت ضغط أمريكي حيث اتصلت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس برئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت عدة مرات لكي تدفعه للعدول عن رأيه بعدم جدوي توسيع الهجوم البري . ويبدو طبقا للمعطيات الحالية علي الساحة العالمية أنه حتي لو شاء القدر أن تدون كتب التاريخ القادم بأياد أمريكية فإنها لن تذيل بعبارة " صنع هذا التاريخ في أمريكا " لكنها سوف تقر بأن إرادة الشعوب الحرة بالتعاون مع الشرفاء أفرزت ما تضمنته هذه الكتب .