أخيرًا.. وبعد مخاض عسير خرجت الحكومة العراقية الجديدة التي يرأسها نوري المالكي إلا الوجود، إلا انها خرجت ناقصة النمو لعدم تمكن القادة العراقيين من الاتفاق علي وزراء الحقائب الأمنية وهي الدفاع والخارجية والأمن والوطن، وعلاوة علي هذه الولادة المتعسرة المشوهة، فإن حكومة المالكي تواجه تحديات هائلة.. صعبة ومعقدة، ويستوقف نجاحها أو فشلها علي كيفية معالجة هذه التحديات وعلي نحو يرضي الأطراف السياسية الفاعلة في المشهد العراقي ويؤمن المواطن العراقي العادي علي حياته ويحميه من المسلحين وقوي الأمن وقوات الاحتلال علي حد سواء. ولعل الملف حل المليشيات يعدان من أبرز التحديات التي استهل المالكي ولايته بالتعهد بالتصدي له، والتحذير من أن وجود السلاح بيد هذه المليشيات قد يؤدي إلي حرب أهلية. ولكن الكثير من المحللين يرون أن نوايا المالكي لا تكفي وحدها لحل هذه المشكلة، بل يتطلب منه الحزم في التعامل مع هذا الملف وتعاون كل القوي السياسية التي تدعم أو تحتضن هذه المليشيات معه. في هذا الإطار يقول الدكتور غسان العطية مدير المعهد العراقي للتنمية والديمقراطية إن المالكي سيعتمد لحل هذه المشكلة علي الفقرة 91 من الدستور العراقي التي تقضي بدمج المليشيات في الجيش والشرطة. وأشار إلي أن عدم شمول ميليشيا البشمرجة الكردية في هذه الفقرة إضافة إلي زيادة نفوذ مليشيا جيش المهدي التابعة للزعيم الشيعي مقتدي الصدر والاستقلالية التي تتمتع بها مليشيات فيلق بدر حاليا عن المجلس الأعلي للثورة الإسلامية وتلقيها الدعم مباشرة من إيران ووجود ما يسمي مليشيات الظل السنية التي تضم -حسب العطية- نحو 50 تنظيما من الفصائل المسلحة ستزيد الأمور صعوبة علي المالكي. وشدد العطية علي أن الولاياتالمتحدة وبريطانيا يدركان أنه دون وجود جيش عراقي قوي، فإن مشكلة المليشيات لا يمكن أن تحل. الملف الأمني هو الآخر سيمثل تحديا كبيرا للحكومة الجديدة. واللافت أنه رغم الأهمية الكبيرة لهذا الملف وتركيز هذه الحكومة في برنامجها علي مكافحة "العنف والإرهاب"، إلا أن الوزارات المعنية بهذا الموضوع وهي الداخلية والدفاع والأمن الوطني بقيت من دون وزراء أصيلين. وبعيدا عن ذلك فإن رؤية المالكي للتصدي لهذا الملف لن تعتمد فقط علي القوة بل بانتهاج أساليب أخري مثل المصالحة الوطنية لرأب الصدع وإيجاد أجواء وجسور الثقة بين مكونات الشعب العراقي. ويقول العطية إن القوة وحدها لا تكفي لحل هذه المشكلة بل لا بد من الحوار مع الجهات المعارضة للحكومة ودمجها في العملية السياسية وتلبية بعض مطالبها وفي مقدمتها تنفيذ التعديلات التي يطالب بها السنة في الدستور العراقي، مشيرا إلي أن الحل يتطلب أيضا التوصل إلي صيغة لحوار عراقي شامل مدعوم من الأممالمتحدة لحل المسائل المختلف عليها. ومن التحديات الأخري التي تواجه الحكومة الجديدة استكمال جاهزية القوات الأمنية العراقية تمهيدا لجدولة لانسحاب القوات الأجنبية من العراق. واعتبر العطية أن التواريخ التي حددها المالكي لتولي القوات العراقية الملف الأمني من القوات الأجنبية غير واقعية وإنما قصد منها مخاطبة الجمهور البريطاني المتذمر من استمرار وجود قوات بلاده في العراق. في هذا الإطار توقع المالكي تولي القوات العراقية السيطرة الأمنية من القوات الأجنبية بحلول نهاية العام علي أن تبدأ في محافظتي العمارة والسماوة بجنوب العراق اعتبارا من الشهر المقبل. لكن العطية اعتبر أن التواريخ التي حددها المالكي في مؤتمره الصحفي مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير غير واقعية وأنما قصد منها مخاطبة الجمهور البريطاني المتذمر من استمرار وجود قوات بلاده في العراق. وبعيدا عن هذه الملفات يواجه المالكي ملفا آخر لا يقل خطورة وهو الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة العراقية. المحلل السياسي العراقي د. لقاء مكي أن معالجة ظاهرة الفساد تتطلب من المالكي تحركا سريعا وحازما قبل الشروع في أي عملية لإعادة الإعمار وتحسين الخدمات. وأوضح مكي أن من بين الإجراءات التي يتعين علي المالكي الشروع بها تفعيل التحقيقات التي أعلن عنها سابقا عن الفساد الإداري ولم تتضح نتائجها بعد وتفعيل لجنة النزاهة وتوفير الحماية للمفتشين الإداريين وإحالة النتائج النهائية للقضاء بسرعة. واكد الرئيس العراقي جلال طالباني في ان مجلس الرئاسة سيجتمع مع رؤساء وقادة الكتل البرلمانية لحسم مسألة حقيبتي الدفاع والداخلية اللتين ظلتا شاغرتين في تشكيلة الحكومة الجديدة. ونقل بيان عن طالباني قوله بعد لقاءه بالسفير الأمريكي في بغداد زلماي خليل زاد ان "مجلس الرئاسة سيعقد اجتماعا سيشارك فيه قادة الكتل السياسية لاختيار وزيرين من الاسماء المطروحة لوزارتي الداخلية والدفاع لحسم هذا الموضوع". ولم يحدد طالباني موعد الاجتماع لكنه اكد ضرورة "الاسراع بكل الوسائل بملئ الفراغات الوزارية واختيار وزيرين لتولي مهام وزارتي الداخلية والدفاع". واوضح ان "الآراء كانت متطابقة ومشتركة ومتوافقة علي ضرورة اختيار وزيرين دفاع وداخلية عراقيين مستقلين بعيدين عن الاحزاب او ما يسمي المليشيات وقادرين علي تولي مهامهما وانجاز المهمة"، معبرا ان "طرح اسماء لشخصيات سياسية كرئيس مجلس الحوار الوطني خلف العليان أمر مخالف للاتفاقات السابقة". ومن جهته اكد السفير الاميركي في بغداد ضرورة دعم حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي. وقال "سنعمل سوية علي دعم حكومة رئيس الوزراء". واضاف ان "العراق في وضع امني خاص وهذا يتطلب تعيين وزراء اقوياء واكفاء". لكنه اكد ان "هذا القرار متروك للعراقيين لكن نحن لدينا مصلحة في ما يجري في العراق وسنساعدهم علي اتخاذ القرارات لغرض الوصول الي خيارات لتحسين الوضع الامني والاقتصادي والخدمي". ويتولي المالكي حاليا منصب وزير الداخلية بالوكالة بينما يتولي سلام الزوبعي نائب رئيس الوزراء (سني) منصب وزير الدفاع بالوكالة وكلف برهم صالح (كردي) نائب رئيس الوزراء، منصب وزير الدولة لشؤون الامن الوطني بالوكالة. وأكد النائب حسن السنيد عضو لائحة الائتلاف العراقي الموحد الشيعية عن حزب الدعوة ان "هناك شبه توافق بين الكتل البرلمانية علي اسمي نصر العامري لوزارة الداخلية وبراء نجيب الربيعي لوزارة الدفاع". والعامري (شيعي) والربيعي (سني) هما لواءان سابقان في الجيش العراقي المنحل. ورجح السنيد ان "يعلن رئيس الوزراء نوري المالكي هذين الاسمين" ، مشيرا الي انه "يعمل حاليا علي حسم مسألة وزير الامن الوطني الشاغرة" واتهمت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي حول حقوق الانسان للعام 2006 الذي نشر الثلاثاء القوة المتعددة الجنسيات وقوات الامن العراقي والحركة المسلحة بارتكاب "جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية" في العراق. وجاء في التقرير ان "انتهاكات جسيمة ارتكبت بما في ذلك جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية علي ايدي الجماعات المسلحة والقوة المتعددة الجنسيات وقوات الامن العراقية". واتهمت المنظمة المدافعة عن حقوق الانسان القوة المتعددة الجنسيات في العراق "باستخدام القوة المفرطة مما ادي الي سقوط قتلي وجرحي بين المدنيين"، مشيرا الي "انباء تفيد بانها لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لتقليل الخطر علي المدنيين الي ادني درجة ممكنة". وتطرق التقرير الي ممارسات هذه القوات في العراق، واشار الي "احتجاز الاف الاشخاص بدون تهمة او محاكمة علي ايدي القوة المتعددة الجنسيات وكان اغلبهم سنة اعتقلوا في المنطقة المسماة 'المثلث السني' حيث يتركز جانب كبير من نشاط الجماعات المسلحة المعارضة للقوة المتعددة الجنسيات والحكومة العراقية وحرم اغلبهم من الاتصال بمحامين وباسرهم في الشهرين الاولين للاحتجاز". وتابع ان "سيطرة القوات العسكرية الأمريكية استمرت علي اربعة مراكز احتجاز رئيسية هي سجن ابو غريب في بغداد ومعسكر بوكا في ام قصر قرب البصرة في الجنوب ومعسكر كروبر قرب مطار بغداد الدولي ومعسكر سوسا قرب السليمانية في الشمال". واوضح "كانت هذه المراكز الاربعة تضم ما يزيد عن 14 الف محتجز بينهم ما يربو علي 1400 كانوا محتجزين منذ ما يزيد عن العام وكان من بين المعتقلين تسع نساء محتجزات في معسكر كروبر". واشارت المنظمة التي تتخذ في لندن بالاتهام الي الحركة المسلحة في العراق موضحة ان "الجماعات المسلحة التي تقاتل القوة المتعددة الجنسيات والحكومة العراقية كانت مسؤولة عن انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان بينها قتل الاف المدنيين عمدا في تفجيرات وغيرها من الهجمات واحتجاز الرهائن والتعذيب". واضافت ان "الجماعات المسلحة كانت مسؤولة عن اختطاف عشرات من العراقيين والاجانب واحتجازهم رهائن وقتل كثير من الرهائن وكان اغلبهم مدنيين". واتهم التقرير ايضا القوات العراقية فاشار الي "ظهور ادلة علي تفشي التعذيب وسوء المعاملة علي ايدي قوات الامن العراقية". وعدد من بين وسائل التعذيب المستخدمة "التعليق من الذراعين والحرق بلفافات التبغ والضرب والصعق بالصدمات الكهربائية في اجزاء مختلفة من الجسم والخنق وكسر الاطراف والاعتداء الجنسي". وتحدث ايضا عن "انباء تشير الي استخدام التعذيب وسوء المعاملة في مراكز احتجاز سرية ومراكز الشرطة ومراكز الاحتجاز الرسمية في مناطق مختلفة وكذلك في مبان في بغداد تسيطر عليها وزارة الداخلية". كما اشار التقرير الي "ورود انباء ايضا تفيد بوقوع انتهاكات لحقوق الانسان في المناطق التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستان في شمال العراق". وعلي الصعيد القضائي، ندد التقرير باصدار "المحاكم الجنائية العراقية احكاما باعدام عشرات الاشخاص واعدم ما لا يقل عن ثلاثة اشخاص". واخيرا عبرت منظمة العفو عن قلقها ازاء "العنف ضد المرأة" في العراق فنددت ب"استمرار تعرض النساء والفتيات للتهديدات والهجمات والمضايقات"، مشيرة الي "تعرض كثير من النساء والفتيات لضغوط كي يرتدين الحجاب ويغيرن سلوكهن وتعرض بعض النساء للقتل والاختطاف علي ايدي الجماعات المسلحة". ومن جهة أخري يشهد العراق عموما وبغداد خصوصا منذ ايام ازمة محروقات خانقة وازمة تغذية بالتيار الكهربائي ناجمة عن العمليات التخريبية. وقال عاصم جهاد الناطق الرسمي باسم وزارة النفط العراقية ان "هناك مجموعة اسباب وعوامل تقف وراء استفحال هذه الازمة". واوضح ان "عدم استقرار الوضع الامني بات يهدد بشكل مباشر قطاع النفط وانسيابية تدفق المنتجات النفطية من المصافي الي المستودعات ومن المستودعات الي محطات تعبئة الوقود". واضاف جهاد ان "العمليات باتت تطال ليس فقط انابيب نقل المشتقات بل ايضا الصهاريج التي تنقل هذه المشتقات من المستودعات الي محطات تعبئة الوقود وسائقها". واشار الي ان "بعض المحطات الاهلية اغلقت ابوابها بسبب رفض سائقيها التوجه الي مستودعات الوقود الواقعة في مناطق ساخنة مثل اللطيفية (جنوب) والمشاهدة (شمال) وخان بني سعد (شمال شرق) بسبب الخوف من تعرضهم الي هجمات مسلحة". وتضم بغداد حوالي 160 محطة تعبئة وقود اكثر من نصفها اهلية. واوضح المسؤول النفطي انه بالاضافة الي هذه الاسباب فأن "الاموال المخصصة لاستيراد المشتقات النفطية من دول الجوار والتي بلغت العام الماضي ستة مليارات دولار قلصت هذا العام الي اقل من النصف كما ان هناك دول اعتذرت عن تزويد العراق بالمشتقات النفطية". واكد جهاد ان "استهلاك العراق للبنزين يتجاوز عشرين مليون لتر يوميا منها ستة الي سبعة ملايين لبغداد وحدها" ، مشيرا الي ان "ما هو متوفر حاليا اقل بكثير من هذه الارقام". واعتبر ان "الانقطاعات الطويلة في التيار الكهربائي ادت بدورها الي زيادة الطلب علي مادة البنزين من اجل تشغيل المولدات المنزلية"، موضحا انه "كلما ازداد الطلب كلما شكل عبئا علي المحطات". وفيما يتعلق بالعمليات التخريبية، اشار جهاد الي "تعرض انبوبين ناقلين للمشتقات النفطية الي عمليتين تخريبيتين الاسبوع الماضي الاول ينقل المشتقات من مصافي الشمال لبغداد والثاني من الجنوب الي الوسط". واضاف ان "وحدتين من مصفاة بيجي توقفتا الاسبوع الماضي بسبب خلل فني ما ادي بدوره الي تدني الانتاج". واشار الي "وقوع حريق في ميناء خور العمية في اقصي جنوب العراق يوم الجمعة الماضي تم السيطرة عليه". ودعا المسؤول النفطي القوات الامنية العراقية والقوات المتعددة الجنسيات الي توفير الحماية الكافية للمنشأت النفطية العراقية والعاملين في الطقاع النفطي، مؤكدا ان "الوزارة وزارة خدمية لا يمكنها توفير الامن لعامليها". ولم يستبعد جهاد "تدخل اطراف داخلية وخارجية في الازمة الحالية بهدف تعطيل اي تقدم يمكن ان يحصل في القطاع". وكان وزير النفط العراقي الجديد حسين الشهرستاني قد وعد الثلاثاء الماضي بالعمل علي حل ازمة الوقود في البلاد. وقال الشهرستاني في اول مؤتمر صحفي له "آمل ان تكون هذه السنة هي السنة الاخيرة التي يقف فيها المواطن العراقي في طابور من اجل الحصول علي مبتغاه من البنزين او الغاز المنزلي". واضاف ان "هذه الامور يجب ان تحل ونحن لدينا القدرة والشجاعة لمواجهة الصعاب وتذليلها". واضاف "وضعنا أليات اعتقد ان المواطن العراقي سيلمس نتائجها خلال فترة قصيرة". واوضح الشهرساتي ان "من اولويات هذه الحكومة وضع حد للاعتداءات الارهابية علي الثروات من منشأت وخطوط انابيب ومحطات كهربائية"، مؤكدا ان "الحكومة لن تتساهل مع الارهابيين ولديها الارادة والقوة وستضرب بيد من حديد علي كل من يحاول التجاوز". وفي بغداد، تصطف طوابير طويلة من السيارات تمتد الي مسافة عدد من الكيلومترات امام محطات الوقود تنتظر دورها امام المحطات. ويباع لتر البنزين في محطات الوقود بما بين 150 و250 دينارا وفق نوعيته لكن بعض العراقيين يجبرون علي شرائه بسعر الف دينار (66 سنت) للتر الواحد من السوق السوداء لكي يتجنبوا الوقوف ساعات طويلة في طوابير امام محطات الوقود. وما يفاقم الازمة هو ان سكان العاصمة العراقية الذين يقدر عددهم باكثر من ستة ملايين نسمة يواجهون منذ اسابيع ازمة كهرباء خانقة. ووصلت ساعات القطع المبرمج الي عشرين ساعة يوميا في العديد من احياء بغداد بمعدل ساعة كهرباء مقابل خمس ساعات قطع وهو ادني مستوي لتوزيع الطاقة منذ سنوات طويلة. وتتعرض الحكومة العراقية الي حملة انتقادات واسعة من العراقيين بسبب عجزها عن تأمين الكهرباء للعاصمة علي الرغم من مرور ثلاثة سنوات علي سقوط نظام صدام حسين. ويلجأ العراقيون مجبرين الي استخدام المولدات الكهربائية الصغيرة التي تحتاج بدورها الي وقود. يشار الي ان معدل تصدير النفط الخام منذ عام 2003 يبلغ 1.6 مليون برميل في اليوم. وأمام كل هذه التحديات الجسيمة، يبدو أن المالكي يواجه مهمة صعبة لا يحسد عليها، ويري الكثير من الخبراء والمحللين أن نجاحه في التصدي لها قد يقود العراق إلي بر الأمان، في حين أن فشله قد يدخل هذا البلد المنكوب في نفق الحرب الأهلية الشاملة.