لم يكد الرئيس الإيراني المغامر محمود أحمدي نجاد يهنأ بموجة التأييد الشعبي الجارفة، التي غمرته في أعقاب الإعلان عن نجاح بلاده في تخصيب اليورانيوم محليا بنسبة 5.3% وعزمها علي المضي قدما في تخصيبه بمعدلات صناعية، معيدة بذلك الروح إلي شعبيته الآخذة في التآكل التدريجي منذ تصاعد الأزمة النووية الإيرانية حتي فجع الرجل بردة فعل أمريكية مضادة غاية في القوة والصلابة تأبي إلا أن تجهز علي بصيص النور الذي أضاء السماء الإيرانية الملبدة بغيوم المشاكل الاقتصادية الطاحنة في الداخل والأزمات السياسية المعقدة مع الخارج،وأن تقوض بارقة الأمل التي أحيت تطلعات الرئيس الإيراني لتثبيت دعائم شرعيته السياسية، التي تعتمد بشكل كبير،إلي جانب روافدها الدينية، علي مستوي التأييد الشعبي في الداخل. ذلك أن نجاح الإيرانيين في تخصيب اليورانيوم محليا، وإن كان بنسب ضئيلة،قد أقض مضاجع الأمريكيين وطير صوابهم بعد أن إستوطن القلق بداخلهم بشأن تنامي قدرات طهران علي تخصيب اليورانيوم بنسب عالية يمكن لها أن تفي بإحتياجات ومتطلبات تصنيع القنبلة النووية خلال فترة زمنية وجيزة، كما شعرت إدارة الرئيس بوش أن التيار المحافظ في إيران يتلاعب بها وبالمجتمع الدولي للمرة الثانية حيث تمكن من تعميتهم جميعا مرتين: أولاهما، حينما إستمر طيلة قرابة عشرين عاما يسابق الزمن في تطوير برنامج نووي متكامل تحت ستار من السرية التامة والتكتم الشديد. وثانيتهما، قبل أسابيع حينما نجح في استغلال سياسة المماطلة والتسويف من أجل كسب الوقت وكللها بالإعلان عن تخصيب اليورانيوم محليا بالرغم من التربص الدولي والملاحقة السياسية والاستخباراتية والدعائية المستمرة من قبل الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ومن ثم لم يعد الأمريكيون يستبعدون أية مفاجآت في دراما إيران النووية التي أحرجت واشنطن أيما إحراج بعد أن بدت حائرة مابين رغبة ملحة في عدم السماح للإيرانيين بالمضي قدما في تطوير برنامجهم النووي بما يعظم من فرص امتلاكهم للسلاح النووي، وبين عجز حقيقي عن اتخاذ أية إجراءات عقابية صارمة حيال طهران من شأنها أن تحول بينها وبين بلوغ الخط الأحمر النووي. من هنا،ألقت واشنطن بثقلها علي الجهود الدبلوماسية التي من شأنها أن تقود إلي أليات عقابية ربما تنطوي علي تصريح أممي باستخدام القوة لاحقا. لذا، نشطت مساعي إدارة الرئيس بوش داخل مجلس الأمن الدولي وخارجه من أجل إبقاء ملف إيران النووي داخل أروقة المجلس والحيلولة دون انفراد الوكالة الدولية للطاقة الذرية، غير المعنية قانونا بمعاقبة إيران، بإدارته. كما طفق صقور الإدارة يسابقون الزمن بغية حشد الإجماع داخل المجلس علي إصدار قرار من مجلس الأمن يبيح استخدام إجراءات عقابية صارمة ضد طهران بموجب الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية، وهوالذي تعد قراراته ملزمة واجبة النفاذ، بما في ذلك البند رقم 42 الذي سيتيح اللجوء إلي القوة العسكرية لحمل طهران علي تجميد كافة أنشطتها النووية. وهو الأمر الذي أفضي إلي تحليق نذر التصعيد العقابي العنيف ضد طهران في أفق الشرق الأوسط،لاسيما بعد أن باتت التهديدات الأمريكية والإسرائيلية بتوجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية أكثر مصداقية من أي وقت مضي. ووسط هذه الأجواء المضطربة، وجد الرئيس نجاد نفسه مجددا مضطرا للعودة أدراجه إلي المربع رقم واحد،حيث الضغوط والتهديدات التي تحاصره خارجيا من جهة والتأزم والاحتقان الشعبي الشديدين في الداخل من جهة أخري . وبالتالي،عكف الرجل في عجالة علي البحث عن منفذ جديد للإبقاء علي قسط ،لابأس به، من الدعم الشعبي في مثل هذه الظروف الحرجة علي نحو من شأنه أن يشكل حائط صد منيع في مواجهة التحركات الأمريكية، التي تسير بالتوازي مع حشد وتعبئة الرأي العام الدولي لمعاقبة طهران، و الرامية من جانبها إلي تحري السبل السياسية والدعائية الكفيلة بإسقاط النظام الإيراني من الداخل عبرتضييق الخناق عليه ودعم قوي المعارضة المناوئة له في الداخل والخارج. فخارجيا،عمد نجاد إلي إضفاء مسحة من الحميمية علي علاقات إيران مع الدول العربية والإسلامية،خصوصا دول الجوار، عبررسائل تطمينية تنحو باتجاه إزالة أي هواجس من برنامج إيران النووي الذي ما برح الإيرانيون يؤدون علي سلمية أهدافه ومدنية طابعه، وذلك من خلال الإعلان عن رغبة طهران الجادة في توثيق أواصر التعاون والتقارب مع هذه الدول علي كافة المستويات وفي شتي المجالات. وداخليا، عكف نجاد علي البحث عن وسيلة ملائمة لإستمالة الشعب الإيراني الذي استبدت به المخاوف وتملكه القلق بشأن احتمال تلقي البلاد ضربة عسكرية موجعة تجعل الإيرانيين شركاء لجيرانهم العراقيين في معاناة ومأساة لا يعرف متي تنقشع غمتهما إلا الله. وفي أول محاولة منه لاستجداء رضاء الداخل الإيراني الذي طالما ظل تواقا للتغيير وبقي مفعما بالتوجهات الإصلاحية الانفتاحية، وبعيد أيام قلائل من بدء حملة أمنية كانت السلطات، التي تخضع لهيمنة التيار المحافظ،قد شنتها في ربوع البلاد بغية تقييد تلك التوجهات وتخفيض سقفها لدي جموع الشعب الإيراني لاسيما المرأة الإيرانية، التي سلبتها الثورة الإسلامية حقوقا مشروعة عديدة كانت تتمتع بها قبل العام 1979، أدان نجاد لجوء السلطات الأمنية أو أية جهات رقابية أخري إلي إستخدام إجراءات صارمة لإلزام المرأة أو إجبارها علي إرتداء الحجاب خارج المنزل، كما حقق نجاد قفزة نوعية في ذات المضمار حينما أجاز للنساء الإيرانيات الذهاب إلي ملاعب كرة القدم لمشاهدة المباريات والجلوس في أفضل المواقع مع توفير الأجواء التي تضمن لهن الاحترام والوقار والتقدير من قبل من حولهم. وهي الخطوة التي ربما يحاول الرئيس الإيراني من خلالها أن يرد علي دول الإتحاد الأوربي التي ما برحت تكيل إنتقاداتها لنظام طهران بجريرة ماتعتبره انتهاكا لحقوق الإنسان في إيران لاسيما المرأة والأقليات. وهي الانتقادات التي تم توظيفها أوربيا في إطارالحملة الغربية لمحاصرة طهران بغية الضغط علي نظامها وإجباره علي الإمتناع عن المضي قدما في تطوير البرنامج النووي الإيراني، وذلك علي نحو ما تجلي في موقف شعبي ورسمي غربي بارز حيال طهران خلال تظاهرة ثقافية وفنية أوربية وعالمية مهمة كمهرجان برلين السينمائي الدولي الأخير، والذي قررت لجنة التحكيم العليا فيه منح جائزة الإخراج الأولي للعام 2006 للمخرج الإيراني جعفر بناهي عن فيلم له بعنوان "حالة تسلل" والذي يناقش فيه أزمة المرأة الإيرانية في مجتمع مغلق يحكم المحافظون الإيرانيون المتشددون قبضتهم علي مفاتيح السلطة فيه ويسلبون المرأة الإيرانية حقوقها منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979. وقد تناول المخرج الإيراني هذه القضية في فيلمه من خلال عرض معاناة نساء إيرانيات ولد شعورهن الجارف بالوطنية والإنتماء لديهن رغبة ملحة في الحضور إلي إستاد لكرة القدم في طهران من أجل مشاهدة مباراة مهمة للمنتخب الوطني الإيراني وتشجيعه علي الفوز،غير أن السلطات الإيرانية والتقاليد الثورية المتشددة حالت بينهم وبين ما تطلعن إليه ،وهو ما اعتبره الفيلم بمثابة اضطهاد للمرأة الإيرانية وافتئات علي حقوقها وحرياتها. وفيما قوبلت مبادرات نجاد الإنفتاحية الأخيرة حيال المرأة الإيرانية باستياء بالغ من قبل التيار المحافظ، سواء في داخل البرلمان أو بين أروقة مؤسسات وأجهزة الدولة بشقيها الديني والسياسي والتي يهيمن المحافظون عليها مجتمعة، فقد لاقت استحسانا وترحيبا واسعين من جانب الإصلاحيين وعامة الشعب ،خصوصا النساء. بيد أن أحدا أولئك أو هؤلاء لم يقف عند حدود أو غايات تلك المبادرة من جانب الرئيس نجاد والتي من الصعب اعتبارها توجها حقيقيا وجادا ومستمرا نحو الإصلاح أو التغيير. إذ لم تكن تلك الخطوة سوي مبادرة فردية، وإن حظيت بمباركة المرشد الأعلي للثورة، من قبل رئيس لا تتجاوز سلطاته وصلاحياته تلك التي يمارسها رئيس للحكومة في أي نظام حكم رئاسي تكون الكلمة الفصل فيه لرئيس الدولة،كما أنها لم تتجاوز كونها تحركا آنيا وظرفيا لتحقيق غايات سياسية معينة كالحصول علي قسط من التأييد الشعبي في الداخل من جانب، وتقليص حدة الانتقادات الدولية لممارسات نظام طهران فيما يتصل بالديمقراطية وحقوق الإنسان من جانب آخر. وهو الأمر الذي يتطلع التيار المحافظ ،المحتكر لمقاليد السلطة في إيران ،إلي توظيفه من أجل تعضيد موقفه في مواجهة خصومه، إن تفاوضا أو صداما،علي الصعيدين الداخلي والخارجي.