آخر مستجدات المواجهة الأمريكيةالإيرانية رسالة الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، إلي الرئيس الأمريكي، جورج بوش. لم تنجح الرسالة، رغم فرادتها وأنها الأولي في القطيعة بين البلدين، في أن تكون الحدث الدرامي الذي توخته القيادة الإيرانية، وبالتالي لم تتحقق الهزة السياسية المتوقعة. السبب يعود في الأساس إلي مضمون الرسالة الذي لا يبدو أنه يضيف جديداً، وإلي البرود الذي تعاملت به الإدارة الأمريكية منذ البداية مع الرسالة. قد تكشف الأيام غير ذلك، لكن حادث الرسالة يؤكد أن منطقة الجزيرة العربية والخليج تجد نفسها مرة أخري محشورة بين سياسة إيرانية تقودها طموحات نووية. استراتيجية أمريكية لا تتسع لطموحات مثل هذه. النظر إلي موضوع المواجهة من هذه الزاوية يستلزم تناول ثلاث مسائل مهمة ذات صلة: كيف وجدت المنطقة نفسها في هذا الموقع؟ وهل هناك مبررات لقلق دول المنطقة من المشروع النووي الإيراني؟ وأخيراً السؤال الأهم: هل إيران في طريقها لامتلاك السلاح النووي؟ الإجابة عن السؤالين الأول والثاني لا يمكن إلا أن تكون بالإيجاب. هناك قلق، وهناك ما يبرر هذا القلق.. سياق الحديث سيشير إلي بعض من هذه المبررات بحسب ما تسمح به المساحة. هل تتحمل دول مجلس التعاون شيئاً من المسؤولية في أمر هذا القلق؟ والإجابة أيضاً لابد أن تكون بالإيجاب. هذا موضوع طويل ويتعلق بتاريخ المنطقة، وتاريخ الترتيبات الأمنية فيها منذ بداية القرن الماضي، وحتي الغزو العراقي للكويت عام 1990 في هذا السياق هناك أولاً مسؤولية ترك موضوع توازن القوة في المنطقة لمعادلة التوازن الإيراني العراقي، وهي معادلة سقطت منذ سقوط نظام الشاه. بعد ذلك هناك مسؤولية ترك موضوع توازن القوة للاحتواء الأمريكي لكل من إيران والعراق، وهذا هو الآخر سقط مع قدوم "المحافظين الجدد" إلي البيت الأبيض، وتبنيهم لخيار إسقاط النظام العراقي، ثم المواجهة مع إيران. وفي كل ذلك لم تتحمل دول مجلس التعاون مسؤولياتها في الترتيبات الأمنية في المنطقة، وأبرزها الدخول المباشر في معادلة توازنات القوة فيها. وهذا يصدق بشكل خاص علي السعودية باعتبارها الدولة الأكبر في المجلس، والدولة الرئيسية الثالثة، إلي جانب العراق وإيران، في منطقة الخليج. الآن تغيرت الخريطة الجيوستراتيجية للمنطقة. خرج العراق كقوة رئيسية. وسيبقي كذلك لسنوات، هذا إذا لم ينقسم إلي دويلات بسبب الفشل الذريع للسياسيين العراقيين الذي جاءوا مع الاحتلال، وبسبب مخططات الأمريكيين، وتواطؤ بعض القوي السياسية العراقية نفسها مع هذا التوجه. هذا التطور تسبب في اختلال التوازن الذي فرض قبول الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة. نتيجة لذلك، وخاصة بحكم احتلالها للعراق، أصبح للولايات المتحدة دور مباشر في ترتيب الخريطة السياسية للمنطقة، والترتيبات الأمنية فيها. بعبارة أخري، لم تعد أمريكا الآن هي جار لدول المنطقة، بل تضرب حول هذه الدول حزاماً عسكرياً استراتيجياً يمتد من جنوب الخليج العربي إلي قاعدة إنجرليك التركية. ورغم ما يوفره هذا الحزام من حماية للمنطقة، إلا أنه في الحقيقة يضعفها علي المدي البعيد. إيران تقع ضمن هذا الحزام. وهذا تحديداً أحد أهم المعطيات التي استجدت منذ 1990، وترجح بأن برنامج إيران النووي ليس لتوفير الطاقة، بل لتطوير سلاح نووي يوفر لطهران خيارات لا تتوفر لها من دونه: بالسلاح النووي تستطيع إيران مقاومة الحزام الأمريكي، وتوفر لنفسها قوة رادعة أمام الهجمة الأمريكية، وتسمح لها بأن تكون القوة الإقليمية الكبري في المنطقة. وهذا بحد ذاته مصدر أساسي لقلق دول مجلس التعاون. هناك مبررات أو معطيات أخري، تشمل أن إيران تفتقد إلي العمق الاستراتيجي، وتحيط بها قوي نووية أخري: الهند، وباكستان، وإسرائيل، وأمريكا الآن في العراق، وفي مياه الخليج. ثم لا ننسي أن القيادة الإيرانية تتبني أيديولوجية دينية لها امتداداتها داخل المنطقة العربية، إلي جانب أنها بحكم كونها أيديولوجية دينية، فإنها دائماً ما تأخذ منحي توسعياً، ليس بالمعني الجغرافي بالضرورة، وإنما بالمعني السياسي. من ناحية أخري، يمثل العراق بوضعه الحالي، وتحديداً جنوب العراق، وعداً بأن يكون العمق الجغرافي لإيران. لكن الأخيرة لا تستطيع الاستفادة من ذلك من دون أن تكون لها قوة ووزن سياسيان يسمحان لها بحماية حلفائها في العراق. ومن دون سلاح نووي لا تملكه إيران، خاصة بمثل قيادتها السياسية الحالية، القدرة علي لعب هذا الدور. كل ذلك وغيره يرجح أن إيران قد اتخذت قرار امتلاك السلاح النووي، وأن هدف سياسة المواجهة التي تتبناها حالياً مع الولاياتالمتحدة هو لفرض خيار قبولها في النادي النووي. يبقي السؤال: هل يسمح الغرب، وتحديداً أمريكا بذلك؟ حتي الآن لا تقبل أمريكا بخيار مثل هذا. بل إن الكثير من التقارير والتحليلات الأمريكية تؤكد أن واشنطن قد اتخذت بدورها قراراً بالمواجهة العسكرية، ووضعت خططا لذلك، في حال رفضت طهران التخلي عن خيارها النووي. بل إن هناك تقارير تقول بأن عناصر استخباراتية أميركية هي الآن داخل إيران للتهيئة للهجوم الأمريكي القادم. من ناحية أخري، يشير محللون ومسئولون أمريكيون سابقون إلي أن فكرة غزو أمريكي لإيران غير واردة لأسباب كثيرة، وأن توجيه ضربة جوية ممكن، لكنها لن تحقق هدفها بالكامل بسبب تعدد مواقع المشروع النووي الإيراني، وانتشارها الواسع في مناطق مختلفة. ولأن المشروع سري، لا يستبعد أن بعض المواقع هي فقط للتضليل. كل ذلك يتطلب معلومات استخباراتية دقيقة، ويتطلب هجوماً جوياً لأيام متتالية، ثلاثة إلي أربعة أيام علي الأقل. وهو ما يستدعي بالضرورة تحالفاً واسعاً، خاصة من الدول المحيطة بإيران، ولا يبدو أن واشنطن قد نجحت في تحقيق ذلك. طبعاً لا يعني هذا أن واشنطن لن تلجأ إلي الخيار العسكري، لأن الإدارة الحالية هي إدارة متطرفة، ومعرضة للتأثيرات الإسرائيلية بشكل قوي. لكل ذلك فإن مشهد المواجهة الإيرانيةالأمريكية هو بحد ذاته مثير لقلق دول وشعوب الخليج. بل هناك حديث عن احتمال استخدام أمريكا للسلاح النووي التكتيكي، وهناك المخاوف المرتبطة بضرب مفاعلات نووية. ثم هناك المخاوف البيئية للمشروع النووي الإيراني، حتي مع افتراض أنه مشروع سلمي. مفاعل بوشهر يقع علي الخليج العربي. تعتمد دول مجلس التعاون في تأمين احتياجاتها من الماء بشكل أساسي علي تقنية تحلية مياه الخليج. ومن ثمَّ هناك مخاوف من تسرب إشعاعي من المفاعل الإيراني إلي مياه الخليج، وما سيترتب علي مثل ذلك من مخاطر حقيقية علي حياة سكان دول المنطقة، بما فيها إيران نفسها. الشق الثاني من القلق الخليجي هو شق عسكري أمني سياسي يتعلق بالآثار السياسية والأمنية علي توازنات القوة في المنطقة في حالة تكشف أن المشروع النووي الإيراني هو لتطوير وامتلاك سلاح نووي. في هذه الحالة ستكون هناك تغيرات وآثار بعيدة المدي، من أهمها اختلال ميزان القوي في المنطقة بشكل حاد لصالح إيران علي حساب دول المنطقة، وبالتالي سيغير من طبيعة الدور السياسي لإيران في الخليج. ستكون إيران في حالة امتلاكها للسلاح النووي الدولة الإقليمية الكبري في المنطقة. ولهذا آثار وتداعيات سياسية واقتصادية لا يمكن التنبؤ بطبيعتها واتجاهاتها الآن. الأكيد أن هذا سيفرض تغير الخريطة السياسية والترتيبات الأمنية في المنطقة. ومثل هذا التطور قد يتحقق ودول المنطقة في حالة ضعف واضح، ومعها بقية الدول العربية، الأمر الذي قد يفرض عليها تنازلات سياسية وأمنية مؤلمة وغير مقبولة في وضع مختلف. ربما قيل إن مصدر قلق دول مجلس التعاون من المشروع النووي الإيراني لا يستند حتي الآن إلا علي مجرد احتمالات ومخاوف تغذيها الحملة الدعائية الأمريكية ضد المشروع الإيراني. ربما. لكن إيران تصر علي أن تبقي مشروعها في السر، ولم تتعامل مع دول المنطقة بشفافية لا تسمح للحملة الأمريكية والغربية أن تحقق أهدافها. سرية المشروع الإيراني، وتكتم القيادة الإيرانية حوله يثيران المخاوف، ويؤكدانها. ولهذا طالبت الدول الخليجية أثناء القمة التشاورية الأخيرة في الرياضطهران بالشفافية، وبالانفتاح حول هذا الموضوع. وليس مؤكداً أن طهران ستستجيب لذلك، لأن طبيعة مشروعها تستدعي السرية. الأكيد أن القلق الخليجي مبرر. لكن هناك مصدراً آخر لهذا القلق، وهو بقاء دول الخليج خارج معادلة التوازن الإقليمي للمنطقة. السؤال ما هي خيارات دول مجلس التعاون في هذه الحالة؟