العلاقات المتوترة ما بين القضاء ودوائر السلطة تدل علي ان هناك خللا هيكليا في تحديد الوضع الأصولي للقضاء باعتباره سلطة من السلطات الثلاث للدولة "السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية" وتتميز السلطة القضائية بأنها هي ملاذ الشعب عندما يحدث خطأ او خلل في عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية. لانها تمثل "الحق" وتعيد الامور والقرارات الي وضعها الذي يوجبه لها الحق. وليس من الصعب ان نتبين ان اصل هذا الخلل هو محاولة السلطة التنفيذية مد نفوذها الي السلطة القضائية والرغبة الخفية في ان تتخلص من رقابتها علي ما قد تتخذه من قرارات معيبة او تجافي العدالة او تخالف الدستور، وللسلطة التنفيذية في هذا سوابق عديدة معروفة كان اكثرها شهرة محاولة الناصرية تجنيد القضاة في الاتحاد الاشتراكي، ومقاومة القضاة، هذه المحاولة مما ادي الي "مذبحة القضاة" المعروفة. وقد فشلت هذه المحاولة المفضوحة، ولكن السلطة لم تستسلم فأوجدت هيئات لها اختصاص قضائي، ولكنها تعود الي السلطة التنفيذية، وكان هذا اختراقا سلطويا لحرم العدالة واستطاعت بهذا الاختراق ان توجد ازدواجية في التنظيم القضائي وأن يفتات التنظيم السلطوي الذي يحمل اسم العدالة، علي سلطة القضاة في ممارسة مهمتهم المقدسة، وابرز هذه التنظيمات "وزارة العدل التي يتبعها الادعاء العام بدءًًا من المدعي "أو النائب" العمومي حتي الالوف من وكلاء النيابة الذين يسبقون القضاء في العمل الذي يقدم للمحاكم بعد ان يخضعوه تبعا لمقاييس السلطة وليس العدالة. من هنا فان استقلالية القضاء تتطلب تعديلاً هيكليًا تحرر به السلطة القضائية او تتدخل فيها فإذا اردنا ان يتحقق الاستقلال المنشود للسلطة القضائية فلابد من اتخاذ خطوات جذرية وحاسمة للقضاء علي صور الازدواجية القائمة. وهذا يعني القيام بإصلاح جذري يقضي علي الخلل الهيكلي وما يعنيه هذا من تغيير لكل النظم والممارسات القضائية تبعا لذلك. ويمكن ان نقدم تصورا اوليا لذلك في اتخاذ الخطوات الآتية: أولا: إلغاء وزارة العدل ونقل كل اختصاصاتها الي ديوان القضاء لأن الوزارة جزء من السلطة التنفيذية ووجود وزارة تحمل اسم العدل يمثل ازدواجا مع السلطة القضائية ويخالف مبدأ الفصل بين السلطات الذي تكون له اهمية خاصة بالنسبة للقضاء. ثانيا: مع إلغاء وزارة العدل، تتغير وضعية النائب العام. وتصبح مهمته "الادعاء" وحده في بعض القضايا دون التحقيق. ويستتبع هذا ايضا الغاء نظام "وكلاءالنيابة" الذين يقومون بعمل مزدوج هو الادعاءوالتحقيق فضلاً عن انهم يمثلون مخالب الدولة في العملية القضائية ويحل محلهم قضاة التحقيق. بحيث تحول كل تحقيقات البوليس الي قاضي التحقيق الذي يقوم بالتحقيق المبدئي ويقرر احالة القضية الي المحكمة المختصة. ويمنح سلطة حبس المتهم في الحالات التي تتطلب ذلك لمدة ثلاثة ايام لا تجدد ويكون امره بعد هذا في يد المحكمة. ثالثا: يطلق علي الهيئة التي تمارس السلطة القضائية "ديوان القضاء" وهم اسم له اصل في تراثنا القضائي يوحي باستقلالية عن السلطة التنفيذية وله في تاريخه ما يؤكد قداسته ويستبعد اي تدخل فيه. ويعد هذا الديوان تجسيدا للسلطة القضائية ويكون له مخصصات مالية ينص عليها الدستور تصرف للديوان وتحولها اليه وزارة المالية. بمجرد تقديرها في المجلس التشريعي، ويتولي هو دون غيره قاضي التصرف فيها. رابعًا: يكون كل ما يتعلق بالقضاء من عمل ديوان القضاءولا تتدخل اي سلطة اخري فيه بما في ذلك تعيين القضاة، والتحقيق فيهم، وشروط الخدمة الخ.. خامسا: تسلم المحاكم وميزانياتها لديوان القضاء الذي يكون صاحب الصلاحيات في ادارتها وكل ما يتعلق بها. سادسًا: تسلم السجون وميزانيتها لديوان القضاء. ويكون هو المسئول عن كل ما يتعلق بها ولعل هذا هو الحل الوحيد للقضاء علي ما يمارس في السجون من تعذيب وإذلال ويعد وصمة في جبين اي نظام يصمت عليه. سابعًا: يجب وضع مبدأ سيادة القانون المنصوص عليه في الدستور موضع التحقيق وذلك بشمول سلطة القضاء لكل الاشخاص طبيعيين او معنويين. ولا يستثني موظفو الدولة او ضباط الجيش من يد القانون. لان الشرط الرئيسي والمميز للقانون هو عموميته وليس هناك ما يميز موظف في الدولة عن اي مواطن آخر يعمل بالزراعة او التجارة او المهن. كما يجب إصدار القانون الذي يوجب محاكمة الوزراء. وكذلك القانون الذي يقصر حصانة اعضاء مجلس الشعب علي ما يدور في المجلس. اما اي نشاط خارج المجلس اقتصادي او تجاري.. الخ، او اي مخالفة للقانون فلا يعصم ذلك كله النائب من رقابة وسلطة القانون. ثامنا: لمقاومة ظاهرة عدم تطبيق الاحكام يمكن تخصيص قوة رمزية محدودة تكون لها صفة "الضبطية القضائية" وتتدخل لتطبيق الاحكام النهائية عندما تتعدد صور هروب موظفي الدولة من ملاحقة القانون وأسوأ من هذا ان يعمل بعض الموظفين علي تفويت تطبيق الاحكام بمختلف الوسائل، ان تطبيق القانون هو الهدف من القضاء ولا يجوز ان تصدر الاحكام ثم لا تنفذ سنوات طوالا لان هذا يهدر العدالة. ويشجع المخالفين. ويوجد تمييزا بين المواطن العادي الذي يمكن تطبيق الاحكام عليه وفورا، والمواطن المتميز سواء كان ذلك بالثروة، او بالسلطة او النفوذ او الجاه او بالوظيفة، فكل المواطنين سواء. تاسعًا واخيرًا: نلغي كل صور المحاكم الاستثنائية كمحاكم امن الدولة، او المحاكم العسكرية ويخضع جميع المواطنين لمحكمة واحدة وللقاضي الطبيعي الذي يحكم بقانون واحد يطبق علي الجميع وهذا القانون "نفسه" يكون مستلهمًا من القرآن وما ثبت كماله من القوانين الوضعية الاخري لانها تدخل في اطار "الحكمة" التي جعلها القرآن قرينة للكتاب وجعلها الرسول "ضالة" المؤمن. والحق ان سيادة القانون إنما تعني: أ ألا تكون الدولة ملك الحزب الواحد، او دولة الطبقة. ب ألا يكون احد فوق القانون او بمنأي عن ولايته. ج ألا يحرم اي واحد من حماية القانون. د ألا يكون هناك التفرقة امام القانون، فالكل امامه سواء. ه ألا يعتد بأي إجراء او تصرف يصدر مخالفا للقانون. و أن تجُب الولاء للقانون كل صور الولاء الأخري مهنية او اسرية او قومية او نقابية.. الخ. ز ألا يكون هناك سوي قانون واحد يخضع له الناس جميعًا دون تفرقة. إننا عندما نقدم هذا التصور للاصلاح لا نتوقع ان يطبق الآن. لأن دون ذلك مصالح عليا مكتسبة تحول دون ذلك بل ايضا يمكن القول ان تطبيقها انما يعني تغيير النظام بأسره ولكن هذا لا يمنع من ان يكون هذا التصور نصب اعين القضاة الذين هم اصحاب الاختصاص الاول واصحاب المصلحة في سيادة القانون بحيث يمكن ان يطبق عندما يأذن الله بالإصلاح الأكبر وهو آت آت.. وإن طال المدي.