مع أن وفد حركة حماس الذي زار موسكو في الأسبوع الماضي لم يسمع هناك شيئا يختلف عن الشروط التي وضعتها الولاياتالمتحدة واللجنة الرباعية الدولية للتعامل مع حكومة فلسطينية تقودها حركة حماس، إلا أن قادة حماس اعتبروا الزيارة نجاحا كبيرا بكل المقاييس. ليس في الأمر لغزا، ولكن الأمر يتعلق بالأهداف التي تسعي حماس لتحقيقها في هذه المرحلة، فبالمكاسب التي حققتها حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية أصبحت حركة حماس شريكا مسئولا عن الوضع الفلسطيني، ولم تعد حماس هي نفس تلك الحركة الجالسة في مقاعد المعارضة متمتعة بحرية النقض والرفض غير المسئول لكل خطوة تتخذها السلطة الفلسطينية، كما لم يعد لديها ترف تجاهل القيود والعقبات والتهوين من شأنها واتهام السلطة بالانحناء أمامها والاستسلام لها، بل بات عليها أن تتعامل وبجدية مع هذه العقبات، بما في ذلك الاستعداد لتقديم التنازلات اللازمة للتغلب عليها. وباختصار فقد فقدت حركة حماس الحرية التي اعتادت التمتع بها، وتعلمت الدرس الصعب القائل بأن السلطة مسئولية وقيود وليست مجرد امتيازات ووجاهة، وأن من يريد وجاهة السلطة ونفوذها عليه أن يدفع ثمنا لكل هذا. بسبب تاريخها وأيديولوجيتها فإن فتح القنوات مع المجتمع الدولي كان أول العقبات التي كان علي حركة حماس التعامل معها وتذليلها. فقد اعتاد ممثلو حماس التهوين من شأن المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، بإطلاق الحجة الصبيانية الشكلية وغير السياسية القائلة "ماذا فعل الرأي العام العالمي للشعب الفلسطيني؟ وهل استطاع المجتمع الدولي تنفيذ قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة الصادرة لصالحه؟". هذه هي الحجة التي اعتاد قادة حماس إطلاقها ردا علي نقاد عمليات حماس الانتحارية وأثرها السلبي علي موقف المجتمع الدولي من القضية الفلسطينية. لكن اليوم، وبعد أن باتت حماس تشارك في تحمل مسئولية التحدث باسم الشعب الفلسطيني وقيادته نحو تحقيق أهدافه المشروعة، كما باتت تتحمل المسئولية الأولي عن تخفيف أشكال المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها، أصبحت حماس عاجزة عن الاستمرار في تجاهل المجتمع الدولي. ففي غضون أسابيع قليلة سيصبح لحماس حكومة مسئولة عن جهاز الإدارة الفلسطيني المتضخم، وسوف يكون عليها أن تدفع رواتب عشرات الألوف من الموظفين، كما سوف يكون عليها أن توفر نفقات قيام جهاز الدولة الفلسطيني الناشئ بوظائف ومسئوليات اجتماعية وخدمية، من التعليم إلي العلاج، ومن شق الطرق إلي توفير المياه والكهرباء، وهي مسئوليات لها تكلفتها الهائلة، بينما لا يتوافر لجهاز الدولة الفلسطيني أي مصدر يذكر للموارد الخاصة به، فلا نفط أو غاز يمكن بيعه، ولا عائدات ناتجة عن مرور السفن والطائرات في الممرات الملاحية أو الأجواء الوطنية، أما تحصيل الضرائب فهو مفهوم غريب علي المجتمع الفلسطيني الذي توقف عن دفع الضرائب منذ الانتفاضة الأولي عندما كانت سلطات الاحتلال هي الجهة التي تقوم بتحصيلها، ومن يومها اعتبر الفلسطينيون أن جمع الضرائب هو من شئون الاحتلال، وأن عدم تحصيل الضرائب هو واجب أصيل لأي سلطة وطنية. في مواجهة هذا الوضع كانت السلطة الوطنية الفلسطينية منذ تأسيسها مضطرة للاعتماد علي مصادر تمويل خارجية، كان أهمها متحصلات الجمارك التي تحصلها إسرائيل لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية علي البضائع الداخلة والخارجة من المناطق الفلسطينية، وعلي الدعم المالي الذي تقدمه الجهات المانحة، وأهمها الاتحاد الأوروبي الذي يقدم للسلطة ما يقارب المليار دولار سنويا، والولاياتالمتحدة التي تقدم للسلطة الفلسطينية حوالي 250 مليون دولار أخري. فإذا كان لحماس أن تتولي إدارة الشأن الفلسطيني بنجاح فإنه لا بديل لديها عن التعامل مع المجتمع الدولي واكتساب ثقته، وبالتالي فإن عليها دفع الثمن اللازم للفوز بتعاونه، الأمر الذي يسقط كل دعاوي وحجج حماس القديمة حول لا جدوي المجتمع الدولي وهامشيته. كل هذا ومازال الكلام دائرا حول تدبير الموارد المالية اللازمة لإدارة المجتمع الفلسطيني والحياة اليومية للفلسطينيين، إن عن الحفاظ علي الأمر الواقع كما هو، ودون أي حديث عن خطط مستقبلية تتعلق بإنهاء الاحتلال وترسيم الحدود ووضع القدس وتأسيس الدولة الفلسطينية، وكلها أمور لن تستطيع حماس عندما تصل إليها تجنب التعامل مع المجتمع الدولي والقبول بجانب لا بأس به من شروطه. مشكلة حماس هي أن الأطراف الدولية الأكثر تأثيرا في الشأن الفلسطيني كانت قد أغلقت الأبواب أمامها منذ وقت طويل، فالولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي قررا منذ سنوات تصنيف حماس كمنظمة إرهابية، ووضعوا شروطا لقبول التعامل معها، وهي الشروط التي تتناقض بشكل كامل مع أيديولوجيا حماس وبرنامجها السياسي. وتدرك حماس أن إقامة الصلات مع المجتمع الدولي ليست بالأمر المستحيل، كما تدرك أنه سوف يكون عليها في النهاية أن تدفع الثمن المطلوب لذلك، مع بعض المساومة المرهقة هنا وهناك. ولكن حماس تدرك أيضا أن إحداث التغييرات المطلوبة سيحتاج بعض الوقت، حتي لا تفقد مصداقيتها أمام مؤيديها، وحتي ترتب أوضاعها الداخلية وتتجنب انشقاقاً داخلياً، خاصة بعد المعارضة التي أظهرها بعض قادة كتائب عز الدين القسام الجناح المسلح للحركة، والذين أظهروا عدم ارتياحهم لمواصلة حركة الجهاد الإسلامي عملياتها المسلحة ضد إسرائيل، بينما بقي مقاتلو حماس في الظل. لقد قدمت موسكو لحماس فرصة تاريخية نادرة، فرغم تقلص دور روسيا في سياسات الشرق الأوسط لأكثر من عقدين من الزمان فإن استقبالها لقادة حماس ساهم في حلحلة وضع بدا مستعصيا. فروسيا المنكفئة علي شئونها الداخلية، والمكتفية من غنيمة اللعبة الدولية بعضوية شرفية في نادي الكبار الذين لا يريدون إثارة عداوة قوة نووية هائلة حتي لو اقتربت من مستوي الدول النامية في أغلب المجالات الأخري، روسيا هذه مازال لديها ما تسهم به. فروسيا رغم ضعفها لها مكانة مقدرة في المجتمع الدولي، وهي رغم ضعف تأثيرها علي مسارات القضية الفلسطينية إلا أنها عضو كامل العضوية في اللجنة الرباعية المسئولة دوليا عن هذا الملف، الأمر الذي يجعل الانفتاح عليها يبدو كما لو كان انفتاحا علي المجتمع الدولي كله واختراقا للجنة الرباعية نفسها. وربما تساءل الكثيرون عن مغزي عضوية روسيا في اللجنة الدولية رغم ضآلة تأثيرها علي الأطراف الفاعلة في هذا الصراع. لكن استقبال موسكو للوفد الممثل لمنظمة حماس يبين المكاسب التي يمكن الحصول عليها من وراء دور روسي. فروسيا القوية عسكريا، خاصة نوويا قادرة علي إثارة المتاعب في وجه الكبار، وهي عادة ما تميل لوضع عقبات في طريق الأمريكيين خصومها السابقين، فتقبض ثمنا من خصوم الولاياتالمتحدة، ثم تعود للمساهمة في إزالة العقبات من طريقهم، لتقبض الثمن مرة أخري من الأمريكيين. فهذا مثلا هو ما تفعله روسيا مع إيران التي بنت لها مفاعلا نوويا تلقت ثمنه، وهي الآن تساهم في احتواء الخطر الإيراني مقابل ثمن آخر ستتلقاه من الأمريكيين، وهكذا. هذا الدور الروسي الذي يبدو انتهازيا هو دور مطلوب ومفيد في النظام الدولي الراهن. فهذا الدور مطلوب من خصوم الولاياتالمتحدة للتخفيف من قبضة الهيمنة الأمريكية، كما أنه مطلوب من الولاياتالمتحدة كطريق آمن لاحتواء مصادر التهديد في النظام الدولي، خاصة وأن روسيا في نهاية المطاف تتولي نقل الرسالة الأمريكية بعد أن تعيد ترجمتها إلي اللغة الروسية. بعبارة أخري فإن عالما لا تقوم فيه روسيا بهذا الدور سيبدو موحشا وقد وقع في قبضة هيمنة أمريكية صريحة وفجة، وسيبدو مهينا حيث لن يكون فيه لدي الكثيرين الفرصة لإخراج قبولهم بالمطالب الأمريكية بطريقة تحفظ ماء الوجه، كما أنه سيكون عالما خطرا بسبب خلوه من الكوابح وأجهزة امتصاص الصدمات التي تقلل احتمالات المواجهة بين قوة عظمي وحيدة متغطرسة ودول متوسطة القوة تحاول الفكاك من الهيمنة الأمريكية. ولعل السعادة البالغة التي عبر عنها قادة حماس بعد زيارتهم لموسكو، مع أنهم سمعوا هناك ما كان يمكن أن يسمعوه في واشنطن أو لندن، لعل هذه السعادة تبين قيمة الدور الروسي لخصوم الولاياتالمتحدة، ولعل الرضا الأمريكي عن نتائج الزيارة يبين قيمة الدور الروسي للولايات المتحدة نفسها، ولعل الحدث كله يبين أهمية الدور الروسي في النظام الدولي، ومدي حاجة العالم لقوة قادرة علي لعب هذا الدور.