يقولون إن أباه أجلسه علي العرش بجانبه وجعله شريكا في الملك.. جمع كهنة آمون كي يقدموا فروض الطاعة ليجبرهم علي الولاء له وهو بعد في العاشرة..بسط أمامه خريطة دولته.. ووضع العلامات علي نقاط الضعف فيها وحَذَّرَ.. حرص "أمنحوتب الثالث" علي أن يعلم ابنه الصغير في حياته كيف يتسيد دولة تمتد من الفرات شرقا إلي صحراء ليبيا غربا ومن البحر المتوسط شمالا إلي أرض النوبة جنوبا..قال له: "يابني.. لا تفريط في أن نكون الأعلي.. لا مساومة علي حقنا في أن نتسيد كل حبة تراب تدوسها أقدامنا.. لابد من إظهار وجه القوة والسطوة للجميع.. إذا غفلت عن دولتك فلن يغفل أعداؤك عنها"لكن المليك الصغير الحالم كان يسافر بذهنه بعيدا بعيدا.. ببدنه يجلس علي العرش بجوار أبيه بينما روحه تحلق في سماوات أشد ما تكون بعدا عن واقع الفرعون ودولته..التقط قلبه وجها واحدا للحياة وانقطع له..بالغًا كان حزن الأب "أمنحوتب الثالث".. قاسية هي الأوجاع التي التهمت قلبه.. فمثل هذا الولد لم يخلق ليكون حاكما.. عامٌ يلي عامًا والأب يحاول.. والابن سادر في فكره المحلق.."أمون؟ تحوت؟ معات؟ حتحور؟ رع؟ سخمت؟ حورس؟ آلهة.. آلهة.. آلهة.. تتصارع تتعارك تتنازع.. أوليس الإله قدرة ورحمة وعطاء وعدلا؟ أيمكن أن يكون إله بغير قدرة؟ أيمكن أن يكون إله بغير رحمة؟ أيمكن أن يكون إله بخيلا أو ظالما؟ الإله هو اكتمال الصفات الخيرة القادرة.. وإله واحد قادرٌ خيرٌ أفضل من مائة إله محدودي القدرة والخير...." أرح نفسك يا أبتاه فلمثل حلمك لم يخلق هذا الولد.. مضت السنون.. ومنفردا جلس "أمنحوتب الرابع" علي العرش.. وسرعان ما نسي دروس أبيه ونصائحه وتعاليمه.. ونفض عن ذهنه ما سبق وسمعه عن القوة والسطوة والغلبة واليد العليا والأعداء المتربصين..وانطلق يعدو نحو وجه الحياة الوحيد الذي سيطر عليه.. وتحول من حاكم دولة إلي كاهن.. وصار الدين حياته وأمله وماضيه وغده.. أعلن أنه لا إله إلا "آتون" وحده لا شريك له.. هو مانح الخير والعدل والقوة والسعادة.. هو مُجري النيل ومحرك الرياح وواهب الدفء.. هو منبت البذور ومانح النماء والخصب..وغيرَ اسمه فلم يعد كما أراده أبوه "أمنحوتب الرابع" وإنما صار "إخن آتون".. أي مخلص آتون..ملأ الإيمان قلبه وفاض.. ما عاد يفكر إلا في آتون الساكن في الشمس.. حمل أبناءه وزوجاته وأتباعه ومساعديه ومستشاريه ورحل! ترك "طيبة" حاضرة دولته وسعي نحو مدينة جديدة بناها ل "آتون".. استقر بها وجعلها عاصمة لدولته.. ازدانت "إخت آتون" بالمعابد والقصور.. وتفرغ فيها الفرعون الكاهن "إخناتون" للصلاة والدعاء والتبرك بإلهه الجديد..ذاعت أناشيد الإله "آتون".. تمجده وترجو رضاه وتلتمس عونه..صارت العبادة أكثر قربا للقلوب.. وأصبح الإيمان أصدق وأجمل..نحتت التماثيل ونقشت الجدران وحفرت اللوحات فوق صدور الأحجار تحمل ملامح جديدة: وجنات خاسفة وذقونا طويلة وأنوفا مدببة وبطونا بارزة وعيونا ضيقة.. وانتشر الصدق.. لكن بينما كان الصدق والتوحيد ينتشران كانت دولة "إخناتون" تنحسر.. ضاع منها كل ما يقع شرق خليج السويس.. تُرِك كهنة "آمون" يدبرون ويتآمرون.. انقسم الناس مابين "آتوني" و"آموني" وشاعت الفرقة ووقع الصراع.. واجتاحت البلاد فوضي دينية واجتماعية وسياسية..و"إخناتون" راكع يعبد إلهه ويحتفي بالنور الذي ملأ قلبه وباليقين الذي أراح فكره.. مكتفيا بأن تكون الحياة إلها ومعبدا..ربما يكون قد انتبه وأفاق علي ما يحدث.. ربما حاول إيقافه.. ربما أدرك فداحة أن يكتفي الحاكم بكونه كاهنا.. ربما ندم لأنه لم ينتفع بسنوات جلسها بجوار أبيه يلقنه فيها مهارات الحكم والقيادة والسياسة وإدارة الدولة.. لكن من المؤكد أنه حين انتبه كان الوقت قد فات.. ولم يعد ممكنا إيقاف الثورة التي بدأت..والآن.. وبعد ما يقرب من أربعة آلاف عام.. لم يحسم التاريخ روايته حول "إخناتون": كيف مات وكيف انتهت دولته؟ لا يحكي التاريخ بإسهاب إلا عن تكهنه وإلهه وديانته التي زالت بزوال حكمه.. وعن "آتون" الذي لم يهتم كاهنه بتأمين ألوهيته لفترة أطول.. لا يحمل التاريخ لصاحب الدولة ذكري كقائدٍ وحامٍ وغازٍ وراعٍ.. لا يسجل التاريخ إلا سيرة الفرعون الدرويش الغارق في بحر الوله "الآتوني"..لأنه ببساطة لم يخلق حاكما! naglaamehrem.naglaamehrem.net