"ديفيد" و"ماريا تيريزا" فتيان عاشا في قرية "مونت كورفينو روفيلا" الإيطالية، ونشآ في جو ملبد بالعداء عاصف بالكراهية بين عائلتيهما: عائلة "دارمينيو" التي ينتمي إليها "ديفيد" وعائلة "دامولدي" التي تنتمي إليها "ماريا تيريزا"، شاء حظهما أن يرتبطا برباط وثيق من الحب، دفعهما إلي التلاقي سرا تجنبا لغضبة العائلتين العدوتين، تعددت لقاءاتهما إلي أن كشف الغدر قناعه ووشت خادمة "ماريا تيريزا" بهما وأخبرت عائلة "دامولدي" بلقاءات العاشقين السرية. وفي ليلة ظن العاشقان أنها حلوة ككل لياليهما تربصت عائلة "ماريا تيريزا" بهما وانقضوا عليهما واصطحبا "ديفيد" مكبلا بالأغلال تمهيدا لتوقيع العقاب اللائق والشافي، وحبسوا "ماريا" معلنين شعورهم بالخزي والعار مما أقدمت عليه! قبع "ديفيد" في محبسه انتظارا لعقوبة الانتقام المغموسة بعداء سنوات مضت المترعة بحقد فاضت به قلوب عائلة "دامولدي"، وقبعت "ماريا تيريزا" المحجور عليها تترقب ما ستئول إليه الأمور عاقدة العزم علي ألا تترك حبيبها لقدره وحيدا أبدا، وبقيت عائلة "دارمينيو" تتابع ما يحدث وتتهيأ للرد عليه. وحين قررت عائلة "دامولدي" قتل "ديفيد" أعلنت "ماريا تيريزا" أنها لن تعيش بعده أبدا وأنها لابد قاتلة نفسها إذا قُتِلَ حبيبها. وجدت العائلتان نفسيهما في خندق واحد، فأي تصرف سيعود بالفجيعة والألم علي كليهما، وأخذا يبحثان عن مخرج من هذه المعضلة، والتمسا النصح لدي قس قدير عرف بالحكمة والهدوء والتعقل واستطاع أن ينزع فتيل الصدام وأقنع العائلتين بأن الحل الأمثل هو تزويج "ماريا تيريزا" بحبيبها "ديفيد". وفي يوم مشرق بهيج عقدت اتفاقية سلام بين العائلتين في أحد شوارع قرية "مونت كورفينو روفيلا" وقامت العائلتان ببناء كنيسة في الموقع الذي تم فيه توقيع الاتفاقية وأطلقوا عليها اسم "رسول السلام". من هذه القصة الحقيقية استقي "وليم شكسبير" الذي تم تعميده في 26 أبريل 1564 وتوفي في 23 أبريل 1616 أحداث مسرحيته الشهيرة "روميو وجولييت"، وحاول جاهدا أن يلتزم بالقصة الحقيقية بأكبر قدر ما سمحت به ضرورات الفن وقتئذ، واستطاع أن يخلد ذكر بطليه "روميو" وحبيبته "جولييت" في كل أصقاع الدنيا بينما اندثرت ذكري "ماريا تيريزا" و"ديفيد"! ولعل أبرز وأهم وأخطر ما خالف به "شكسبير" الحقيقة في مسرحيته هو نهايتها، حيث أمات بطليها في مشهد مأساوي فاجع بينما تزوج بطلا القصة الحقيقية في مشهد سعيد بهيج. فهل ياتري حفرت هذه النهاية المأساوية تاريخ العاشقين في القلوب؟ وهل تحولت قصة "ماريا تيريزا" وحبيبها ديفيد" إلي قصة عادية بمجرد زواجهما؟ يبدو ذلك! حيث لم يعثر المؤرخ الإيطالي "جيريميا براجيو" الذي أنفق سنوات طوال من البحث لكشف أصل قصة "روميو وجولييت" والذي كشف النقاب عن حكاية بطليها الأصليين، لم يعثر هذا المؤرخ علي أثر لهما بعد زواجهما. وهنا يثور التساؤل المهم حول ذاكرة الإنسان وما هي الآلية التي تعمل بها لتحتفظ بها بالأحداث والذكريات؟ وهل هذه الذاكرة خاملة راكدة مفرطة تجاه العادي من الأحداث ونشطة يقظة حادة تجاه الأحداث الاستثنائية الصادمة؟ وما الذي يجب علي الأديب فعله للإبقاء علي أعماله حية في ذاكرة البشر؟ هل لابد من خدش القلوب والمشاعر لضمان التذكر والبقاء في دائرة الضوء؟ ماذا لو احتفظ "شكسبير" بالنهاية الحقيقية للقصة الحقيقية؟ ماذا لو انتزع عن "روميو" و"جولييت" سمة التضحية والإخلاص حتي الموت وتفضيل الموت معا علي الحياة فردين؟ هل كان الخلود سيصاحب مسرحيته ذات النهاية السعيدة كما صاحب مسرحيته المأساوية؟ أم أن الناس قد أحبوا في بطلي شكسبير موتهما وأغدقوا عليهم من خزائن الشفقة ما أجري الحياة في حكايتهما لمئات السنين؟ هل كانت حكايتهما ستنطفئ دون أثر؟ ماذا لو قُتِلَ "ديفيد" وانتحرت "ماريا تيريزا" وانتهت سيرتهما نهاية فاجعة موجعة؟ هل كانت قصتهما ستظل باقية خالدة محفورة في وجدان بني البشر؟ وهل كان "شكسبير" سيجد ما يعلو به عليها ليتفوق بروايته علي الحقيقة ويخطف بها تعاطف وشفقة وعقول وذاكرة قرائه؟ أن أم إبداع "شكسبير" في حد ذاته هو الذي صنع من العادي استثناء ومن اليومي علامة؟ وهو الذي أطال عمر حكاية يوجد مثلها عشرات ومئات وآلاف الحكايات التي لم يعد أحد يذكرها وغُيبَت في أروقة النسيان لأنها لم تحظ باهتمام "شكسبير" ولا أي "شكسبيري" آخر؟ وهل يا تري كان قلم وقريحة وذكاء "شكسبير" وموهبته الفذة في حبك نصوصه هي الحافز الذي دفع المؤرخين والموثقين والباحثين للتنقيب في دهاليز التاريخ المظلمة لكشف سيرتي "روميو" وجولييت" الحقيقيين والعثور علي بيتهما وتحويل هذين البيتين إلي مزارين يحج إليهما السياح ويتنسمان فيهما ماتبقي من عبق الرومانسية وعبير العشق ويتركون علي جدرانهما رسائل الحب لأحبتهم ولرمزي العشق والتضحية في عالمنا؟