في مثل هذه الأيام منذ سبع سنوات بكيت في جحافل الليل حتي مطلع الفجر مردداً قوله تعالي: «كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، حيث لقي والدي ربه متوضئاً لصلاة الظهر، وفي نفس الموعد تقريباً الأسبوع الماضي تكرر المشهد معي في ركن من المنزل اعتدت فيه قراءة أورادي وتلاوة القرآن الكريم عقب رحيل الإنسان والفنان والأستاذ والمعلم النقي التقي حمدي أحمد، حيث تشرفت بمعرفته منذ خمسة وعشرين عاماً، أيدني وعلمني ونصرني.. وقفت في صفوف العزاء الثلاثاء الماضي بجوار المستشار محمود حمدي أحمد الذي ظل متماسكاً حتي لحظة دخول السيد عبدالحكيم بن الزعيم جمال عبدالناصر لتقديم واجب العزاء، في هذه اللحظة فقط انهار محمود وهو يحتضن ابن الزعيم.. هي لحظة فارقة فالذي يقدم العزاء ابن ناصر الفقراء والعمال والفلاحين الصعيدي الذي انحاز لطبقات الشعب الكادحة، والفنان حمدي أحمد عشق عبدالناصر وروي هذا العشق لأولاده وتلاميذه ومحبيه، هو حمدي أحمد صعيدي العروبة المؤمن بالاشتراكية والعدالة، هذا الإيمان الذي لن يتزعزع طوال حياته هو الذي جعله أول من يخوض في مصر معركة ضد الإخوان المسلمين، قائلاً لصديقه الزعيم إبراهيم شكري: «لو علي جثتي لن يكون حزب العمل الاشتراكي ستاراً للإرهابيين» حتي إن أنصار المرحوم عادل حسين شقيق أحمد حسين مؤسس مصر الفتاة حطموا سيارة حمدي أحمد. لقد طاف الفنان مصر قراها ونجوعها يرفع راية الفقراء ويعارض الحكومات حتي دفع فاتورة ذلك كله من مستقبله ومن حياته، وقف أمام الرئيس السادات وبلغته المرحة قال له: «أنت زعلان مني ولا ايه يا ريس» فرد عليه السادات: »أيوه يا حمدي، أنت بتقول عليَّ أنا بتاع كازوزة، فقال له: يا ريس لو حبيت تطوروا حي بولاق نعمل زي الرئيس السادات ما عمل في ميت أبوالكوم اجعل في كل بيت حنفية بتنزل ميه وحنفية بتنزل كازوزة، فقال له السادات خلاص يا حمدي أنا مش زعلان منك، فقال له الفنان منه حتة أرض يا ريس جنب نادي الزمالك الجماعة الشاذلية عايزين يعملوها مسجد واحنا عايزين الموافقات والأرض والوقف والمسجد وعايزين المشكلة تتحل، وبأعلي صوت نادي السادات علي الشيخ النمر وزير الأوقاف قائلاً له: الشاذلية دول ناس طيبين، المسجد يخلص، خد يا حمدي تليفون الشيخ النمر وتليفون حماته عشان الشيخ النمر بيخاف من حماته، لو مخلصش موضوع المسجد يا حمدي يا تكلمني يا تكلم حماته، وطار المتصوف حمدي أحمد فرحاً إلي سيدي سلامة الراضي -رضي الله عنه وأرضاه- يبشره بموافقة الرئيس السادات علي بناء المسجد ودار مناسبات الحمدية الشاذلية، وظل مولانا سلامة الراضي يدعو للفنان وهو الآن قد بات صرحاً شامخاً لمصر بصفة عامة ولأولاد مولانا الشاذلي بصفة خاصة.. هو المتصوف رقيق القلب ارتبط أشد الارتباط بهذا المسجد وكان حريصاً علي اطعام الفقراء بيده ومباشرة الأعمال الخيرية فيه.. كما حافظ علي الأعمال الخيرية في قريته المنشآة بسوهاج، وكنت كلما ذهبت إلي حميثرة أبلغه أنني في زيارة لمولانا أبي الحسن الشاذلي، فيرد أوعي تنسي تقرأ الفاتحة.. مصري معجون بطين النيل، صعيدي معجون بتراب العلم كان يوقظني في الثانية صباحاً قائلاً لي: كيف تنام، فأقول له: خيراً يا عم حمدي فيكون نصار قد مات ومننصار يا عم حمدي، طفل عنده 12 سنة شغال صبي ميكانيكي كان ينام في الورشة، الولد من كتر التعب نام تحت العربة النقل وفي الصباح تحركت السيارة فداست نصار ومات الطفل المسكين، الحكومة تركت أمثال نصار يموتون جوعاً وعطشاً في الشارع، ويظل معي حتي الصباح متأثراً بطفل قرأ عنه في صفحة من صفحات الجرائد.. قال للرئيس مبارك ذات مرة أنا زعلان، فرد عليه الرئيس: زعلان ليه يا عم حمدي، قال: عشان صفوت بيه منعني من الكلام »قدامك» يا ريس، فرد الرئيس: أنت ناقص كلام يا عم حمدي أنت بتكتب في عشر صحف. وأخيراً عندما حدثه الرئيس عبدالفتاح السيسي قال: لقد كلمني 90 مليون مصري لأن السيسي يمثل ال90 مليوناً. ذهبت إليه في المستشفي ووجدته علي كرسي متحرك بعد خروجه من جلسة الغسيل فاختبأت منه وتواريت عنه في ركن من أركان المستشفي أبكي حال الفنان، وعندما صعدت إلي حجرته وجدته يضحك مردداً الحمد له.. كان محتسباً وصابراً وراضياً بقضاء الله فرحل في يوم عيد المسلمين يوم الجمعة وهو الذي حرص علي زيارة بيت الله الحرام طوال حياته كل عام والحافظ لكتاب الله ورافع مشاعل التنوير والقيم النبيلة حتي الرمق الأخير في حياته.. وداعاً يا أعز الرجال وأنبلهم سوف نبكي فيك قيم الشهادة والمروءة والثقافة والتنوير، فأمثالك يا أبي لا يموتون. وإنا لله وإنا إليه راجعون