الظلمة تتكاثف و الفجر ما يزال يجاهد ليمزق حجب الظلام .. علي يتخطى باحة المنزل وقد ولّى وجهه شطر المسجد .. صاح في وجهه الأوزّ ..كأنه يطلق استغاثة أو يحذّر من المجهول ؛ تبسم علي وتمتم : صوائح تتبعها نوائح .. ومضى علي يشق طريقه في ظلمة الفجر .. أزفت لحظة الرحيل .. هناك في زاوية من المسجد كان ابن ملجم المرادي يتربص .. إبليس يرقد في ضلاله يرتقب يحمل بين طيات ثيابه النجسة سيف مسموم .. سيف حاد يشبه ثعباناً منتفخاً بالسم .. هتف أمير المؤمنين ليوقظ النيام : الصلاة ! الصلاة ! عباد الله .. تنبه إبليس .. تلوّى .. ظهر صوته يشبه فحيح الأفاعي .. صوت إبليس وهو يستعد للانقضاض .. صفير موحش ، لحن مخيف .. تهيأ بسيف جبان ليهوي باتجاه وجه ما سجد لغير الله سجدة واحدة .. علي الفور تفجرت الآلام من فارس الإسلام .. هوي النجم في محرابه وهو يهتف وقد غمرت وجهه ولحيته الدماء : فزتُ وربّ الكعبة .. أظلمت الأرض وهبت علي أمة الإسلام عاصفة الزمهرير .. ضجت الكوفة بالصراخ والعويل ، وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة .. صاحت الدنيا : قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل علي المرتضى، قتل أمير المؤمنين ، قتله أشقى الأشقياء. فلما سمعت أم كلثوم لطمت على وجهها، وخدها وشقت جيبها وصاحت: واأبتاه واعلياه وامحمداه واسيداه. خرج الحسن والحسين فإذا الناس ينوحون وينادون : وإماماه وأمير المؤمنين ، قتل والله إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم قط وكان أشبه الناس برسول الله. فلما سمع الحسن والحسين صرخات الناس ناديا: واأبتاه واعلياه ليت الموت أعدمنا الحياة، فلما وصلا إلى الجامع ودخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس . فلم يطق الإمام الكرار الصابر علي البلاء على النهوض ، وتأخر عن الصف وتقدم الحسن فصلى بالناس .. لهفي علي أمير المؤمنين يصلى إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته ، يميل تارة ويسكن أخرى .. فرغ الحسن من الصلاة ونادي باكياً : وانقطاع ظهراه! يعز والله علي أن أراك هكذا .. ففتح الإمام عينه ، وقال : يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم ! هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وأمك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون فينتظرون قدوم أبيك ، فطب نفساً وقر عيناً وكف عن البكاء ، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء . شاع الخبر في جوانب الكوفة وانحشر الناس حتى النساء خرجن إلى الجامع ينظرون إلى الإمام علي بن أبي طالب .. وجدوا الحسن ورأس أبيه في حجره وقد غسل الدم عنه ، وشد الضربة وهي بعدها تشخب دماً ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة وهو يرمق السماء بطرفه ، ولسانه يسبح الله ويوحده ، وهو يقول أسألك يا رب الرفيق الأعلى . فأخذ الحسن رأسه في حجره و قد اغشي عليه و بكى بكاء شديداً وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده .. تسقط من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين .. يستفيق الكرار سيد الابطال علي وقع دموع الحسن تنهال علي وجهه الشريف .. يفتح عينيه فرآه باكياً . تبسم سيدي الإمام له ابتسامة واهنة ، وقال : يا بني يا حسن ما هذا البكاء ؟ يا بني لا روع على أبيك بعد اليوم ! يا بني أتجزع على أبيك وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً ؟ ويقتل أخوك بالسيف هكذا ؟ وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما .. فقال له الحسن : يا أبتاه ما تعرفنا من قتلك ؟ ومن فعل بك هذا ؟ قال : قتلني عبد الرحمن بن ملجم المرادي . فقال الحسن : يا أباه من أي طريق مضى ؟ قال لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب . وأشار بيده الشريفة إلى باب كنده . ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه ثم أغمي عليه ساعة والناس ينتظرون قدوم الملعون من باب كنده ، فاشتغل الناس بالنظر إلى الباب يرتقبون وقد غص المسجد بالعالم ما بين باكٍ ومحزون .. فما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت ، من الناس وقد جاءوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفاً هذا يلعنه وهذا يضربه .فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه فأقبلوا بإبليس اللعين مكتوفاً وهم ينهشون لحمه بأسنانهم ، ويقولون له : يا عدو الله ما فعلت ؟ أهلكت أمة محمد ، وقتلت خير الناس. اللعين صامت بين يدي رجل يقال له حذيفة النخعي يمسك بتلابيبه وبيده سيف مشهور وهو يرد الناس عن قتله ، وهو يقول هذا قاتل الإمام علي حتى أدخلوه إلى المسجد . وكانت عيناه قد طارتا في أم رأسه كأنهما قطعتا علق وقد وقعت في وجهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه والدم يسيل على لحيته وعلى صدره ، وهو ينظر يميناً وشمالاً وهو أسمر اللون وكان على رأسه شعر أسود منشوراً على وجهه كأنه الشيطان الرجيم. فلما جاءوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين فلما نظر إليه الحسن قال له : يا ويلك يا لعين ! يا عدو الله ! أنت قاتل أمير المؤمنين ومثكلنا بإمام المسلمين ؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك وقربك وأدناك وآثرك على غيرك ؟ وهل كان بئس الإمام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقي ؟ صمت الملعون ثم دمعت عيناه . ثم تكلم وقال : يا أبا محمد أفأنت تنقذ من في النار ؟ فعند ذاك ضج الناس بالبكاء والنحيب . فقال الحسن: الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه ثم انكب الحسن على أبيه يقبله .. وقال: يا أباه هذا عدو الله وعدوك قد أمكن الله منه. ففتح علي عينيه وهو يقول: أرفقوا بي يا ملائكة ربي. فقال له الحسن : هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك. ففتح أمير المؤمنين : عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه . فقال له بضعف ورأفة ورحمة : يا هذا لقد جئت جرماً عظيماً ، وارتكبت أمراً عظيماً ، وخطباً جسيماً ، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء ؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك ؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا ، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي ؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء ؟ هنا بكى اللعين ابن ملجم ولم يزد عن ترداد قول : يا أمير المؤمنين: أفأنت تنقذ من في النار. قال له علي : صدقت .. ثم التفت إلى ولده الحسن وقال له: إرفق يا ولدي بأسيرك. وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه ، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً ؟؟ فقال له الحسن : يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وافجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به ؟ فقال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً ، والرحمة والشفقة من شيمتنا ! بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله ! واسقه مما تشرب ! ولا تقيد له قدماً ولا تغل له يداً ! فإن أنا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ، وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به . حمل المسلمون إمامهم المضرج بدمائه إلي منزله .. جسد البطل المغوار يذوب وروحه تتأهب للرحيل .