هل يحتاج الخطاب الإسلامي للتطوير والتحديث بمرور الزمان وتبدّل المكان وتغيّر الظروف؟ أم أنّه خطاب ثابت في شكله وحروفه كما هو ثابت في مضمونه وعمقه وليس لتغيّر الزمان والمكان تأثير عليه ؟ باليقين أنّ لتغيّر الزمان والمكان تأثيراً بيّناً على الأحكام الشرعية ، إمّا من خلال تأثيره على موضوعاتها المتجدده أو لمساهمته في خَلْقِ فهم جديد للنصوص الدينية يواكب القضايا الجديدة . ولا ريب أنّ الخطاب ليس مقدّساً في ذاته ولا كلماته ولا هو أمر تعبّدي لا خروج عن حروفه ، وإنّما هو مجرّد وسيلة للتواصل مع الآخر ونقل الأفكار والمعاني إليه ، فلا يلزمنا الجمود والوقوف على مصطلحات معينة أو التقيّد بلغة محددة وألفاظ بعينها ولو كانت واردة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، ولذا فبإمكاننا في عملية الدعوة إلى الله الاستعانة بكلّ اللغات والاستفادة من المصطلحات والأساليب التعبيرية والوسائل البيانية المستجدة، وهذا ما جرت عليه سيرة الأنبياء عليهم السلام ، فإنّهم لم يأتوا بلغة جديدة بل تحادثوا مع شعوبهم باللغة الشائعة بينهم والأساليب التعبيرية المتعارفة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[إبراهيم: 4]، فوظيفة النبيّ والرسول ليست تغيير المصطلحات والألفاظ أو الإتيان بلغة جديدة، بل وظيفته هي تغيير الواقع الفاسد والمنحرف مستعيناً بلغة قومه ، وبالألفاظ التي لا تحمل مضامين سلبية أو إيحاءات باطلة أو فاسدة . وعلى ضوء ما تقدّم يكون من الضروري بمكان أن يُتقن الداعية المسلم لغة عصره ويطّلع على ثقافته ويدرس الواقع ويقرأ في كتاب الحياة بقدر ما يقرأ في المتون والحواشي ليعرف مَنْ يخاطب ؟ وكيف يخاطب ؟ ومن الطبيعي أنّ الخطاب هو التعبير الحيّ عن ثقافة الداعية والمرآة التي تعكس ثقافته وتأهيله ومن قبل مهاراته . وبوحي ممّا تقدّم يكون من اللازم والضروري بمكان إعادة النظر باستمرار في لغة الخطاب الديني ودراسة مدى مواءمتها للعصر وانتمائها للحاضر، كي لا تكون مجرّد صيحة في وادٍ أو هواء في شبك لا تجد آذاناً صاغية ولا تلقى اهتماماً من أحد . ولو أردنا تقييم الخطاب الديني المعاصر لوجدنا أنّه لا يزال ينتمي إلى الماضي بل والماضي السحيق ، وإن كنّا لا نُنكر وجود نماذج كثيرة مشرقة تعمل على إيصال الإسلام إلى الإنسان المعاصر من خلال دراسة عقله قبل مخاطبته، مستفيدة في الوقت عينه من كلّ الوسائل الحديثة المتاحة لها في هذا الصدد ، لكن غالبية الوعّاظ والدعاة لا يزالون أسرى للخطاب القديم والأساليب التقليدية في التبليغ ، وتتردّد على ألسنتهم مصطلحات عفا عليها الزمن ولم يبقَ لها وجود سوى في المعاجم اللغوية وهَجَرَها الناس لوحشيّتها أو غرابتها وثقلها على الأسماع والألسنة. والأمر لا يقتصر على الوعّاظ والخطباء بل يمتدّ إلى الفقهاء، فإنّ الرسالة العملية التي تُكتب لتكون مرجعاً لعامة الناس لا تزال تُكتب بلغة علميّة ومصطلحات ثقيلة تنتمي إلى التاريخ ولا علاقة لها بالحاضر، وهذا ما يحول دون الاستفادة العامة من الرسالة المذكورة للإنسان العادي ما لم يستعن ببعض العارفين والمختصين بفكّ رموزها ومعرفة أسرارها. وتظل حاجز منيع لوصول الرسالة الفقهية . ومشكلة انتماء الرسالة العملية إلى الماضي تتكرّر في كل المجامع الفقهية والجامعات الدينية عند كافة المذاهب الفقهية ، و لا تزال عصيّة على التحديث والتطوير رغم الحاجة الملحّة إلى ذلك في خضم التغيّر الكامل للحياة في أنظمتها التعليميّة وأنماط العيش والسلوك ووسائل المواصلات والاتصالات، وإنَّ من المفارقات العجيبة أنّ النظام التعليمي في العالم شهد ولا يزال ثورة على مستوى المناهج الدراسية حتى أنّ جامعات العالم جعلت التخصّص في وضع البرامج وإعدادها واحدة من الفروع التخصّصية فيها، بينما نجد المناهج الدراسية في الجامعات الدينية مصابة إلى حدٍّ كبير بالشلل، فلا تزال الكتب المقرّرة للدراسة في الفقه أو النحو أو الأصول أو علم الكلام.. تعود إلى مئات السنين على الرغم من الإضافات الهامّة التي أدخلها المتأخّرون على العلوم المذكورة في العمق والشكل وفي المنهج والأسلوب، بحيث أصبحت الكتب القديمة تنفع في دراسة تاريخ هذه العلوم لا في دراسة العلوم نفسها . وهذا هو الفارق الهام . ويقيني أن المشكلة لا تكمن في عجز الدعاة عن تحديث لغتهم وأساليبهم التعبيرية ولا في عجز الفقهاء والعلماء عن تحديث المناهج الحوزوية، أو تطوير لغة الرسالة العملية بل المشكلة في افتقادهم إرادة التغيير وأنسهم بالمألوف المعروف لهم ووحشتهم . فالمشكلة تكمن في العقلية التي تقدّس الماضي وتنجذب إليه، وتتحرّك وفق مقولة "ابقِ ما كان على ما كان"، وهذه العقلية هي التي تقف حجر عثرة بوجه كلّ نشاط أو جهد تطويري أو تنويري، وما لم يعمل المخلصون ممّن يدركون هذه المشكلة على تغيير هذه الذهنية بالتربية والتعليم في سبيل نزع قداسة الماضي بما هو ماضٍ، فلن تفلح كلّ الجهود التطويرية في الوصول إلى أهدافها.