ما سطرته في المقال السابق لا يُشكّل في كلِّ الأحوال دعوةً إلى كتمّ الأفواه وإسكات الأصوات، وإنّما هي دعوة إلى احترام التخصّصات، كما أنّها باليقين ليست دعوة للتسليم المطلَق والانقياد الأعمى للناطقين باسم الدين من علمائنا ، فقهاء كانوا أو وعّاظاً ، فمن حقّ كلّ مسلم أن يسأل الفقيه والعالم، ويناقش في الأمر بكلِّ موضوعية ما دامت المسألة في دائرة القضايا الاجتهادية .. نعم ليس لأحد من الناس أن يُفتي في ما لا يملك عِلْمه أو يتمرّد على ما قامت الحُجّة الشرعية عليه، وقد كان المسلمون من صحابة النبيّ (ص) يسألون ويناقشون النبيّ (ص) رغم أنه مؤيد بوحي السماء ، وكان يتقبّل ذلك بكلّ رحابة صدر. إنّ حقيقة ما نرمي إليه أنّ على الأُمّة أن لا تكون مجرّد أُمة متلقّية تصفِّق لما تسمع، بل عليها أن تقوم بمراقبة ومحاسبة الأشخاص الذين ينطقون باسمها واسم الدين الذي ينتمي إليه أبناؤها، لأنّ البعض من هؤلاء قد يُسيئون أكثر ممّا يحسنون. وما ذكرناه من ضرورة احترام التخصّصات وأن لا يتكلّم المرء في ما لا يملك علمه، لا يعني أنّ الفكر الديني حِكْرُ على طبقة معيّنة أو على هيئة كهنوتية خاصّة هى المخوّل ألها ن تنطق باسم الدين أو تحتكر فهم النص وتفسيره، كما يخال البعض ويتوهّم، القضية كلّها أن يتكلّم المرء بعلم ووفق القواعد المسلّمة، سواء كان من داخل المؤسّسة المذكورة أو من خارجها. وعلى ضوء ذلك يمكننا القول: 1- إنّ كل مسلم مأذون، بل مدعوّ- بحدود ما يعرف- إلى تبليغ الدين والتبشير به في عقيدته وشريعته ومفاهيمه، مبتدئاً بأسرته وأقرب الناس إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم: 6]، وقال سبحانه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء: 214]، وتالياً بكلّ الناس من حوله، سواء كان هذا المسلم من داخل المدرسة التقليدية أو من خارجها، معمَّماً أو غير معمَّم، تاجراً أو طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك. والحقيقة أنّ الروح الرساليّة هي التي كانت سبباً في نجاح المسلمين الأوائل في نَشْرِ الدعوة الإسلامية في الكثير من الأقطار. وتُشير المصادر إلى أنّ التجّار المسلمين كان لهم الدور المباشر والأساسي في نشر الإسلام في دول جنوب شرق آسيا والصين وغيرها، وكان المحرِّك الرئيسي لهم هو روح المسؤوليّة والحسّ الرسالي، وليس دافع المهنة وأداء العبء الوظيفي، كما أصبح عليه الحال في أيامنا هذه للأسف الشديد . وما ذكرناه لا يتنافى مع فكرة تأسيس معاهد مختصّة ومعنيّة بإعداد وتأهيل مبلّغين ومرشدين يتفرّغون للوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله والقيم السماوية. 2- إنّه ليس كلّ مَنْ يرتدي زيّ علماء الدين مخوّلاً للتكلّم في مختلف القضايا الدينية- كما قد يُخيّل إلى بعض الناس- والمطلوب منه أن يحترم علمه، فلا يتحدّث إلاّ في حدود ما يعلمه، ولا يستحي لو سُئِل عمّا لا يملك علمه أن يقول: لا أعلم، وفي ذلك قول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : مَنْ تَرَكَ قول لا أدري أُصيبت مقاتله. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الإفتاء بغير علم المنهي عنه لا يقتصر على قضايا الحلال والحرام وغيرها من الأحكام الشرعية، بل يتعدّاه إلى المفاهيم الإسلامية أيضاً، من قبيل مفهوم الزهد والعزلة أو الانفتاح على الآخر.. وهذا ما يغفل عنه الكثير من الوعّاظ والخطباء، فتراهم يتكلّمون بحريّة شبه تامّة في المفاهيم الإسلامية، ويتحدثون فيها بضرسٍ قاطع فيقولون أو يكتبون عن رأي الإسلام في الزهد أو العزلة، أو نحوها من المفاهيم الإسلامية، مع أنّ هذا شكل من أشكال الإفتاء، وهو يحتاج إلى استنباط من الكتاب والسنّة، كما هو الحال في الأحكام الفقهية، وبالتالي فكل من لا يملك ثقافة الكتاب والسنّة، فعليه أن يرجع إلى العالم بذلك ويعتمد على قوله وفهمه. وفقنا الله عز وجل لتبصر حقيقة ديننا والوعي الراسخ بأركانه وفروعه ..