المقاطعة المصرية للأجنبي .. لماذا نجح الآباء وفشل الأبناء؟ محيط – شيرين صبحي ندوة الكتاب يقوم الكاتب الصحفي شريف عارف في كتابه الجديد "قطيعة" برصد شعبي لقضية المقاطعة المصرية من خلال زاوية يراها في اعتقاده من أهم زوايا العمل الوطني، فقضية المقاطعة لم تكن وليدة الصدفة. يوثق الكتاب لقضية المقاطعة من خلال ثلاث جوانب وهي الدين كسلطة دينية، والسياسة كمبدأ سياسي، والفن كتعبير عن الحالة الوجدانية والإبداعية للشعب المصري. ينقسم الكتاب الواقع في 200 صفحة من القطع الصغير، إلي ستة فصول، يأتي الأول بعنوان "مبدعون وثائرون" ويتناول مدى تأثر المبدع المصري بالثورة، فقد لعب الفن وخاصة الأغاني الشعبية دورا مؤثرا في المقاطعة بشكل أو بآخر، وللأغنية الشعبية تاريخ طويل يمتد إلي القرن التاسع عشر، ففي عام 1805 تولي محمد علي باشا بعدما ثار الشعب علي الوالي خورشيد باشا وطالبوا بخلعه، وعلي أثر ذلك شاعت أغنية شعبية تغنت بها كل الطبقات الشعبية، تقول كلماتها: يا خورشيد يا وش البوم طول عمرك نحس ومشئوم وهذا ما تكرر في 1919 حينما انطلقت شرارة الثورة المصرية، فراح الشعراء وكتاب الزجل يدعون ل"مقاطعة" المستعمر بشكل مباشر بينما اكتفت الغالبية بالتلميح بذلك. يوضح المؤلف أن هناك ثالوثا فنيا مثل الثورة وهم سيد درويش ورفيقاه بديع خيري وبيرم التونسي، الذين نقلوا نبض الشارع الحقيقي، ويضرب مثال بأغنية "القلل القناوي" التي كتبها بديع خيري ولحنها سيد درويش وتقول كلماتها: مليحه جوي الجلل الجناوي.. رخيصة جوي الجلل الجناوي جرب حدايه وخد لك جلتين خسارة جرشك وحياة ولادك.. علي اللي ماهوش من طين بلدك وكذلك نفت السلطات الإنجليزية الزعيم سعد زغلول وطالبت الشعب بمقاطعته ومنعت ذكر اسمه في جميع الصحف حتي الأغاني، فتحايل سيد درويش لتذكير الناس بالمطالبة بحريته فكتب ولحن طقطوقة "يا بلح زغلول" والتي تقول كلماتها: يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح يا بخت سعدي.. زغلول يا بلح منافسة حقيقية "استقلال.. لا تبعية" عنوان الفصل الثاني من الكتاب، وفيه يتساءل المؤلف هل كانت مصر قادرة بالفعل علي الاستقلال اقتصاديا عن الغرب؟ وهل كان باستطاعتها أن تحقق ثورة اقتصادية تتناسب مع الثورة الشعبية التي فجرها الشعب المصري عام 1919 ؟ الإجابة طرحتها النخبة المثقفة بأنه لا يمكن أن تكون هناك مقاومة بشكل سلبي في صورة مقاطعة تجارية لبضائع الغرب أو التعامل التجاري معه، بل يجب أن تكون هناك منافسة حقيقية مع الغرب. في أغسطس عام 1907 كتب الرائد الاقتصادي طلعت حرب مقالا في صحيفة "الجريدة" يشرح وجهة نظره في الاستقلال الاقتصادي ويري أنه اللبنة الأولي للاستقلال السياسي، فلا يجوز أن نسعي للاستقلال دون أن تكون لنا منشآت اقتصادية صلبة قادرة علي مواجهة بطش الآخر أو ردود أفعاله طرح طلعت حرب ضرورة أن يكون هناك بنك للمصريين يكون رأسماله من أموال المصريين ويكون الممول الرئيسي لكل عمليات التنمية المستقبلية، وقد نجح في إنشاء البنك عام 1920 وبعد ذلك تفرعت من البنك مؤسسات لا تقل عنه أهمية، بدءا من شركة مصر للغزل والنسيج إلي شركة مصر للبواخر وحتي استديو مصر الذي كان يمثل نقلة نوعية كبيرة للسينما العربية. ملوك الرأسمالية يأتي الفصل الثالث بعنوان "ملوك.. وعروش"، وفيه يوضح المؤلف أنه عندما ألغت بريطانيا الحماية علي مصر واعترفت بها كدولة مستقلة، اتخذت مصر كل الإجراءات التي تكفل قيام وظهور دعائم هذا الاستقلال، ومنها الكيانات الاقتصادية الكبري للشركات والمصانع. وإذا كان ملك مصر هو الجالس علي عرش البلاد فإن هناك ملوكا آخرين كانت لهم عروش لا تقل أهمية عن عرش البلاد، فالنهضة الاقتصادية التي أفرزتها ثورة 1919 وظهور بنك مصر حفزت كيانات جديدة علي الظهور وتوسيع أنشطتها وأصبح ملاكها هم "ملوك الرأسمالية الوطنية في مصر. من بين هؤلاء عدد من الرموز الهامة للحركة الاقتصادية المصرية كالمهندس أحمد عبود باشا صاحب مصنع السكر بالحوامدية ومالك أضخم أسطول نقل بحري في الشرق الأوسط خلال النصف الأول من القرن العشرين. وكذلك محمد سيد ياسين بك ملك الزجاج، وفرغلي باشا ملك القطن، وغيرهم. وإذا كانت دعوات المقاطعة قد نجحت خلال الحرب العالمية الثانية بعض الشىء، فإن سبب نجاحها الرئيسي هو وجود منتج مصري بديل مصنوع بأيد وطنية صميمة. ويشير شريف عارف إلي أن جزءا كبيرا من ملوك الصناعة حتي نهاية الأربعينيات كانوا من اليهود المصريين، وعندما أعلن قيام دولة إسرائيل لم يسع الكثيرون منهم للسفر إلي إسرائيل، فقد كانوا مصريين حتي النخاع. ولعل أفضل مثال علي ذلك هو المحامي اليهودي المصري الشهير "شحاتة هارون" الذي أصر علي عدم ترك مصر، وبعد وفاته رفضت أسرته استدعاء حاخام من إسرائيل للصلاة عليه. المقاومة والرجال المؤلف خلال توقيع الكتاب "القنال.. المقاومة والرجال" عنوان الفصل الرابع، يوضح فيه المؤلف أنه بعد توقيع مصر معاهدة الصداقة مع بريطانيا والتي كانت نتاجا لمرحلة طويلة من المفاوضات بين مصر يمثلها حزب الوفد وبين بريطانيا، أصبحت منطقة القناة أشبه بميدان حرب، فقد جاء التوقيع مع ظهور وتألق القوة الإسلامية الجديدة وهي جماعة الإخوان المسلمين التي انطلقت دعوتها للجهاد ومقاطعة الإنجليز وتكوين الفرق المسلحة لمحاربتهم في كل مكان.
وبدأت الطعنات توجه إلي الوفد وزعيمه مصطفي النحاس، وظهرت كلمة العلمانية الليبرالية التي ألصقها الإخوان بالوفد باعتبار أنه حزب يفصل الدين عن الحكم. ولكن القوة التي كان يحظي بها الحزب ساعدت علي إجهاض جزء كبير من مساعي الإخوان، مما دفع الإخوان إلي تحريض الشعب ضد مصطفي النحاس نفسه، فكانت محاولة اغتياله الفاشلة عام 1937 والتي استغلها الوفديون استغلالا حسنا من خلال الصحف. سعى النحاس لمطالبة إنجلترا بتنفيذ بنود معاهدة 1936 ولكنها ماطلت مما دفع الشعب المصري إلي المطالبة بإلغاء المعاهدة، واضطر النحاس عام 1951 أن يضع نهاية لها وأطلق مقولته الشهيرة "من أجل مصر أبرمت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها وعلي إثر ذلك ألغيت المعاهدة. وتأهب الشعب المصري وبالأخص أبناء مدن القناة للاحتمالات التي قد يتخذها المحتل البريطاني إزاء تلك الخطوة الجريئة، فقاطع المصريون العمل في القواعد البريطانية بمنطقة القناة وانسحب العمال الذين كانوا يعملون بالمعسكرات البريطانية وقدروا بحوالي 60 ألف عامل وموظف، وقاطع سائقو القطارات القوات البريطانية، وبدأت هذه المعارك بالمقاطعة السلبية وتطورت بعد ذلك إلي الكفاح المسلح. غزو .. ام تجارة
يوضح الفصل الخامس "غزو.. أم تجارة" أن هناك من استغلوا التجارة لتحقيق أهداف سياسية، ومنهم اليهودي موريس جاتنيو الذي احتكر تجارة الفحم في مصر لسنوات طويلة، وهو صاحب محلات "جاتنيو الشهيرة للأزياء خلال حقبة الثلاثينات والأربعينات، والذي ترددت أنباء قوية عن تقديمه دعما للوكالة اليهودية والحركة الصهيونية العالمية. وكان تنامي الكيانات اليهودية علي أرض فلسطين يمثل قلقا للعرب، وقررت جامعة الدول العربية 1945 حظر دخول المنتجات الإسرائيلية في فلسطين إلي الدول العربية، وشكلت لجنة دائمة للإشراف علي تنفيذ هذا القرار. ويتوقف المؤلف أمام أحد الرموز الأمريكية الشهيرة التي كانت مثار للجدل في رحلة قضية المقاطعة العربية وهي شركة "كوكا كولا" التي تأسست عام 1893 وانتشرت ومارست نشاطها في حوالي 200 دولة وأصبحت رمزا للاقتصاد الأمريكي. وغالبية المطالبين بمقاطعة كوكاكولا في مصر يستندون إلي أنها ليست شركة أمريكية فحسب، بل إنها تقدم الدعم المباشر لإسرائيل، ويستندون إلي حقائق محددة ومنها اختيار الخارجية الإسرائيلية لشركة كوكا كولا العالمية كأكبر مؤيدي إسرائيل عام 1996 م. وفي فبراير 2002 أعلنت "كوكا كولا" أنه نظرا لتنامي عائداتها من إسرائيل فإن الشركة ستقوم بالمساهمة في بناء مستوطنة كريات جيت علي الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال! يؤكد المؤلف في الفصل السادس والأخير "غزة.. الانقسام"، أن الهجوم الإسرائيلي علي غزة في 27 ديسمبر 2008 ، كان محورا للانقسام الداخلي (الفلسطيني – الفلسطيني) والعربي (العربي – العربي) وكذلك في جدوي استخدام سلاح المقاطعة، فكما كانت هناك جهات تلقي باللوم علي حماس واتهامها بأنها السبب في هذا الهجوم.. كانت هناك جهات تؤكد أن سلاح المقاطعة لم يجد وأن حملات المقاطعة هي إضرار بالنفس قبل أن تكون بالعدو واقتصاده. ويوضح أن هذا الانقسام انعكس علي الشارع العربي الذي أصبح حائرا فهو يرى أشقائه في فلسطين يذبحون، وهو لا يستطيع أن يصدر حكما نهائيا.. وقد فتح الهجوم علي غزة الباب أمام تساؤلات كثيرة لم يطرحها أي هجوم من قبل، فتساءل البعض عن جدوي السلام مع دولة لا تحترم أي معاهدات، وتطرق البعض إلي العلاقات الاقتصادية بين العرب وإسرائيل، ومدى التأثير علي الطرفين في حالة تصاعد حملات المقاطعة. مناقشة حية ل "قطيعة" ومؤخرا نظمت لجنة الشئون العربية بنقابة الصحفيين ندوة لمناقشة الكتاب شارك فيها د. عمار علي حسن، والكاتب الصحفي محمد مصطفي شردي. د. عمار حسن رأى أن الفن لا يقوم بدوره الوطني حاليا وغارق في ذاتيته ، وأن هناك تجربة لم تأخذ حظها من التطبيق وهي التنمية الذاتية فبدلا من البحث عن المقاطعة نبحث عن التنمية الذاتية، والتي تعني التفاعل الخلاق مع العالم لبناء اقتصاد وطني قادر علي المواجهة والصمود وليس مقاطعته والعزلة عنه . الكاتب الصحفي محمد مصطفي شردي نائب رئيس تحرير صحيفة "الوفد" تساءل لماذا نجحت المقاطعة فيما مضى وفشلت اليوم، مجيبا أننا نجحنا قديما لأن المقاطعة لم تكن اقتصادية فقط بل قومية بدافع تشجيع إنتاج بلدك، ثم ماتت المقاطعة عندما حاولت الحكومات أن تنظمها أو تستخدمها. مجرد فقاعات غلاف الكتاب ورأى شردي أن المفكرين الاقتصاديين الذين ظهروا في مصر قضت عليهم الثورة، لكي تتولى الحكومة، فلم يعد هناك دافع شخصي لدي المواطن بل دافع عام تحركه الحكومة فلم يعد هناك التقاء بين الشعب والحكومة فيما تفعله، وتحول هذا السلاح إلي سلاح سياسي. وأوضح أنه عندما بدأت تعود المقاطعة مرة أخرى بعدما قضي عليها السياسيون تماما، عادت في زمن لم تعد تستطع أن ترتدي فيه نفس ثوبها لأن كل الشركات التي نحاول أن نقاطعها لم تعد ملك دول بل ملك مشاع لأسهم في كل أنحاء العالم، وعندما تقاطع فإنك تريد أن توجع جزء معين في أماكن معينة، ولكن الآن هذه المقاطعة لا تؤثر إلا في الدول والشركات الصغيرة. شردي رأى أن دعوات المقاطعة أصبحت مجرد فقاعات تظهر، وأحيانا تؤثر لكنها لا تجدي ولا يمكن أن تستمر لأننا نتحدث عن أشياء يمكن مقاطعتها شهورا وليس دائما، لأننا لا نملك البديل ل 90 % من المنتجات التي نريد مقاطعتها، فالأدوية التي نستخدمها جميعها أجنبية و 80 % منها مستورد، معلقا "دعك من البسكويتات التي تقاطعها وهي في الأصل مصنعة محليا وبالتالي فأنت تقاطع منتج مصري يشغل مصريين ورأسمال مصري لكن الاسم أجنبي". كل المنتجات التي كانت تنتج قبل التأميم كان لها درجة جودة عالية جدا، كما يقول شردي لأن كان لها اصحاب فكان يعطيك بديل رائع وفجأة أصبح المال "سائب" والمنتج سىء في وقت منعت فيه الدولة الاستيراد من الأجانب، فلم يكن هناك منافسة ولم نحتاج للمقاطعة لأنها موجودة بالفعل من قبل الحكومة. وأضاف أنه عندما جاء السادات وقام بالانفتاح ظهرت المقارنات واكتشفنا أننا اغلق علينا حوالي 20 سنة وانهارت الصناعة وبدأنا نعتمد علي "الخبرة الأجنبية" لأننا لا نعلم شىء عن كل جديد ولذلك بدأت الخبرة والاستثمارات الأجنبية تعود من جديد ليس في مصر فقط ولكن كل الدول العربية، ووصلنا إلي مرحلة اليوم أننا مرتبطين بخبرته ومضطرين للاستعانة به أو شراء اسمه لأننا نعرف العلامة التجارية التي تعني عمق وبعد وجودة. واختتم شردي حديثه قائلا: أتمني أن يكون الكتاب الأول ضمن سلسلة أخري ترصد محاولات المجتمع العربي والمصري في أن يعمل ما يفشل فيها حكامه، معلقا أن أكثر قطيعة يقوم بها الشعب المصري اليوم هي مقاطعة حكومته. د. عمار علي حسن عقب بأن المقاطعة تحتاج إلي مجتمع مدني قوي وحين كان هذا المجتمع موجودا نجحت المقاطعة، فحزب الوفد نبت في أحضان وأكف المصريين ثم أصبح حزب سياسي. وأكد أننا نحتاج إلي قطيعة معرفية مع بعض الموروثات السلبية والأفكار الواردة الغير منسجمة مع بيئتنا، ومع الروح السلفية التي بدأت تنشع جوانبها الضيقة والمظلمة فقط علي المجتمع المصري، نحن في حاجة إلي قطيعة معرفية إلي جانب القطيعة الاقتصادية.