وفاء وصابرين وآية.. "أطفال مفخخة" في شوارع المحروسة
محيط عادل عبد الرحيم
أنا والحمار والقنابل اجتاحت محافظات مصر مؤخرا مشكلة خطيرة تتمثل في نقص أعداد أنابيب البوتاجاز وارتفاع أسعارها بشكل رهيب حيث وصل سعر بيعها إلى 20 جنيها، رغم أن سعرها الرسمي لا يتعدى 3 جنيهات ونصف، وبشهادة الجميع فإن عدم انتظام وصول الكميات المقررة, إلي محطات التعبئة وزيادة الاستهلاك في فصل الشتاء, والاستخدام السيئ لهذه السلعة الإستراتيجية في مصانع الطوب ومزارع الدواجن, كل هذه العوامل أدت إلي تضخم الأزمة، وقد اندلعت مشاجرات بين بعض المواطنين وصلت إلى حد إراقة الدماء لكن ما شاهدته كان يفوق جميع مظاهر الأزمة.
فلم أكن أتصور وأنا أفتح باب منزلي بأن تكون يد الطارق لهذه الطفلة البريئة التي لم يتعد عمرها الست سنوات وهي تحمل "بمبة الغاز" فوق كتفها النحيل، وقد قطعت فترة الذهول التي انتابتني للحظات بسؤالها المهذب بل المعذب، هل حضرتك اللي طلبت أنبوبة بوتاجاز من عم عوض حارس العقار الذي أقطن به فأجبتها بلجلجة وتلعثم في الرد "نعم أنا هو ذا لكن من أنت ومن الذي طلب منك حمل الأنبوبة إلى هنا؟
أجابتني والخوف يملأ صدرها من مفاجأة السؤال: أختي وفاء هي واقفة على العربية تحت، فسألتها عربية ايه يا صغيرتي فقالت: عربية الأنابيب، فقلت في نفسي كمان عربية، واستطردت معها: وانت متعودة انك تركبي الأنابيب بنفسك في البيوت، فردت: نعم أبي علمني كيف أركبها فزادت دهشتي وهل والدك حي، فأجابت أيوة هو أيضا بيسرح بأنابيب لكن في شوارع أخرى غير اللي إحنا بنمشي فيها.
وإلى هنا والحديث لم ينته، طلبت منها ممارسة عملها أمام عيني لأرى كيف تقوم بتركيب الأنبوبة، وبالفعل حدث ما كان في الحسبان، حيث عجزت يداها الصغيرتان عن "حلحلة" المنظم الخاص بموقد الغاز وطلبت مني مساعدتها نظرا لقوة ذراعي الخارقة مقارنة بذراعيها فطلبت منها أن تستريح هي وفضلت أن أتولى عملية التركيب بنفسي وحسب خبرتي المحدودة بدلا من التمادي في انتهاك براءة الطفولة المتمثلة في صابرين.
وخلال هذه الفترة التي لم تستغرق طويلا تعرفت منها أن لهم أخت ثالثة تدعى آية وهي التي تتولى "القرع" على الاسطوانات كوسيلة لتنبيه المحتاجين للأنابيب، ورغم أنها تكبرها سنا إلا أن صابرين هي المسئولة عن توصيل الأنابيب للشقق وأيضا تركيبها، ولم أنس خلال هذه الدقائق المعدودة "جرجرة" صغيرتي في الكلام عن أصعب المواقف التي تعرضت لها فوجدتها تقول بسرعة يوووووه كتير، ففي كثير من الأحيان "البمبة" تسرب الغاز ونيجي نجرب تروح مولعة من فوق على حد تعبيرها وطبعا لم تنس صابرين البوح بأنها أفضل من يجري في هذه الحالات وليس مهما ما بعد ذلك.
طفولة معذبة وعند هذه النقطة لم أجد ما أقوله، فقط طلبت منها أن تسمح لي بتصويرها هي وشقيقتاها ورابعهم حمارهم طبعا لكنني لم أكن أتصور كمية الخوف التي تولدت لديها من هذا الطلب الذي اعتقدت خطأ أنه سيبهجها كطفلة التقاط صور لها ولأخوتها، حيث قادتها حاسة التوقع لتظن أنني سأبلغ عنها "البلدية" ويأخذوا منها العربة الصغيرة التي يقتاتون منها، وهنا أدركت كم هاجس الخوف وطبيعته، فهي تخشى على عربتها من الضياع ولا تخشى على روحها من الموت.
وبشكل عام يرزح ملايين الأطفال في مصر كغيرها من كثير من الدول العربية تحت نير ثالوث الجهل والفقر والمرض الذي يغتال براءتهم ويحول دون فرصهم في الحياة الكريمة، ورغم سن عدة قوانين في مصر تمنع عمل الأطفال قبل سن السادسة عشر، لا تجد ملايين الأسر بديلا عن تشغيل أبنائهم لأحد سببين إما العجز عن تدبير نفقات التعليم أو العجز أيضا عن تدبير نفقات المأكل والمسكن والملبس.
وقد أشار تقرير حديث لمنظمة اليونيسف أن مئات الملايين من الأطفال حول العالم يُرغمون على العمل في الوقت الذي يجب أن يتعلموا ويلعبوا فيه، مما يحرمهم ويحرم أسرهم ودولهم من فرصة النمو والازدهار مشيرة إلى أن الأطفال الذين يرغمون على العمل تسلب منهم طفولتهم، وإن معظم الأطفال العاملين بعيدون عن الأنظار وخارج نطاق القانون، ويُحرم الكثير منهم مما توفره مجتمعاتهم وأسرهم من رعاية صحية أساسية وتعليم وتغذية كافية وحماية وأمن.
وتشير التقديرات الدولية إلى أن هناك 246 مليون طفل في العالم يعملون ويُعتقد أن حوالي 180 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و 17 سنة (يمثلون 73 في المائة من جميع الأطفال الذين يعملون) يعملون في ظل أسوأ أشكال عمل الأطفال، منها العمل في ظروف خطيرة كالعمل في المناجم واستخدام آلات خطرة ومن هؤلاء الأطفال يُرغم 5.7 ملايين طفل على العمل بالسخرة بموجب صك دين، أو يخضعون لأشكال أخرى من العبودية، ويُرغم 1.8 مليون طفل آخر على ممارسة البغاء، أو الظهور في مواد إباحية، ويمارس ستمائة ألف طفل أنشطة محظور من المسئول عن هذه الكارثة ة أخرى.
وعلاوة على الحرمان من التعليم، يكون الأطفال الذين يعملون كذلك ضحايا سوء المعاملة، أو العنف الجسدي والنفسي، أو الإيذاء من جانب المشرفين عليهم أو من زملائهم في العمل أو من أشخاص خارجيين. ويعد العنف ضد الأطفال في مكان العمل أحد المجالات الرئيسية الخمسة التي ستتناولها دراسة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن العنف ضد الأطفال،وهي تقرير شامل سيصدر في أكتوبر المقبل.
وتركز جهود اليونيسف الرامية إلى حماية الأطفال من عمل الطفل ومن أشكال الاستغلال الأخرى بالأساس على تهيئة بيئة توفر الحماية للأطفال. وفي تلك البيئة، يعمل الناس من جميع مستويات المجتمع، فردياً وجماعياً، على إنفاذ قوانين الحماية، واستحداث الخدمات اللازمة، وتزويد الأطفال ومن يعملون معهم بما يلزمهم من معلومات.