ساقتني أقدامي إلى هذا المكان الشيق لأتنسم عبق التاريخ وأمر بعدة عصور، حيث عاد بي الزمان سبعة آلاف سنة لألتقي بالملك توت عنخ آمون والملكة كليوباترا وأمنحتب ورمسيس، وغيرهم من ملوك الفراعنة، ثم أدخل للعصر الإسلامي وأشاهد مشغولاته النحاسية والسبح وقوارير العطر، ثم وجدت نفسي في حارات وأزقة شعبية ضيقة تباع فيها الإيشاربات (بأويه ومن غير) وعباءات وطواقي أولاد البلد.
عشت هذه اللحظات وأنا أتجول في أشهر حي سياحي وسط العاصمة المصرية "خان الخليلي"، ولم استطع أن أقاوم جمال بعض القطع الفرعونية صغيرة الحجم المصنوعة بغاية الدقة، فاتجهت إليها لأشاهد هذا الجمال عن قرب وأفكر في شراء إحداها، ولكني فوجئت عندما أدرت القطعة بعبارة صنع الصين، وصُدمت، وسألت البائع: أهذه القطعة بالفعل صنع الصين ؟
فرد بالإيجاب، فسألته كيف وهذه الصناعة كما نعلم أنها إنتاج حي خان الخليلي المصري، فأخذ البائع في التفكير، ولكنه لم يجد إجابة.
ولم أنتظر منه الرد وأخذني الفضول لكي أعرف أصل صناعة القطع الموجودة قطعة قطعة، وسألت البائع عن كافة البضاعة الموجودة لديه فوجدت أن غالبية التماثيل والقطع الفرعونية الصغيرة التي يبيعها صنع الصين، إلا القليل، الذي يحمل شعار صنع في مصر.
50 % صيني
تماثيل فرعونية بأيد صينية ولكي أتأكد أن الصين قد توغلت بالفعل داخل حضارتنا الفرعونية وتمكنت من صنع كل ما يمت لها بصلة، وحتى لا أعتمد علي معلومة من شخص واحد، أو لأمنية بداخلي أن تكون هذه المعلومة خاطئة، توجهت إلى محل آخر، واخترت قطعا أعجبت بها وسألت أهذه صنع الصين؟ قال لي البائع : نعم .
ورأيت قطعا خشبية مصنوعة ببراعة، فسألته عنها؟ فأجاب : لا هذه صناعة مصرية، وأكد البائع أن النرجيلة (الشيشة)، المعروضة للبيع في محله صنعت بأيد مصرية، إلا نوع واحد صغير الحجم فهو من صنع الصين.
أما التماثيل الفرعونية، صغيرة الحجم دقيقة الصنع من صنع الصين، أما كبيرة الحجم فهي صناعة مصرية.
فسألته: تقريبا ما نسبة القطع المعروضة لديك ومصنعة بالصين ؟ فقال : بصراحة نقدر نقول إن 50% من هذه البضاعة صناعة صينية، وال 50% الباقية صنعت في مصر.
فوانيس رمضان
والجدير بالذكر، أن صناعة التماثيل والقطع الفرعونية، لم تكن هي الصناعة الوحيدة، التي كانت تنفرد بإنتاجها مصر، لكونها موروث تاريخي خاص بها، وتدخلت الصين حديثا في صنعها، فقد بدأت خلال السنوات الأخيرة، في صنع عروس وحصان المولد وفوانيس رمضان، التي نافست بشدة نظيراتها المصرية، بل ووجدت إقبالا كبيرا من المصريين . والأرقام هي أصدق ما يكشف لنا حقيقة الوضع، فقد استوردت مصر من الصين العام الماضي فوانيس رمضان بمليوني دولار، كما ذكرت الصحيفة الصينية الشعب أونلاين.
وكانت وزارة التجارة والصناعة المصرية أعلنت أن العامين الأخيرين سجلا أعلى زيادة في الواردات المصرية من الصين حين بلغت 915 مليون دولار بارتفاع 38% عام 2005 مقابل 661 مليونا عام 2004، أما الواردات خلال النصف الأول من عام 2006 فقد بلغت 507 ملايين دولار، كما ورد بصحيفة الخليج.
ومازلنا ننتظر المزيد من غزو الجنس الأصفر لأرض المحروسة، لأن مصر نفسها تشجع التواجد الصيني القوي بها، وهو ما أكدته زيارة الرئيس المصري الأخيرة لأرض الصين عام 2006، والتي تركزت حول خمسة محاور، ما يهمنا منها الأول والثاني. وهذه القطع أيضا صنع الصين
يحث أولها على رفع التبادل التجاري بين البلدين من 3 مليارات دولار إلى 5 مليارات دولار عام 2010 ، في مقابل زيادة الصادرات المصرية إلى السوق الصيني من 300 مليون دولار إلى مليار دولار.
أما ثاني هذه المحاور تتعلق بالوصول باستثمارات الشركات الصينية في مصر إلى 3 مليارات خلال 5 أعوام في منطقة شمال غرب خليج السويس، وثالثها تقديم الصين المساعدة لمصر في مشروعات البنية التحتية خلال السنوات الخمس القادمة.
وبغض النظر، عما اكتشفته من واقع مُر يعيشه هذا الحي، فلم يثنيني هذا الواقع من أن أكمل رحلتي الممتعة به، ولم يقلل هذا أبدا من جماله في عيني، فله طابعه المميز الخاص، الذي به يسيطر على زائره ويملأ قلبه بالسعادة والدهشة والاستمتاع، ولذا أدعوكم لمعرفة المزيد عن هذا الحي الرائع.
خان الخليلي تاريخيا
يعود تاريخ إنشاء هذا الحي إلى العصر المملوكي، حيث بناه الأمير المملوك "شركس الخليلي" عام 1382. أما كلمة خان فهي لفظ تركي يعني شارع أو حي، ويعد حي خان الخليلي أشهر الأحياء الإسلامية القديمة، وهو عبارة عن مجمع تجاري ضخم يضم حوالي 1000 محل ومصنع .
وهو واحد من ثمانية وثلاثين سوقا كانت موزعة أيام المماليك علي محاور القاهرة ويقع هذا الخان بالتحديد وسط المدينة القديمة فوق مقابر الخلفاء الفاطميين سابقا .
ويعد خان الخليلي من أكبر مراكز إحياء التراث الإسلامي في المنطقة العربية، ويعتبر مقصدا مهما للسياحة في مصر، حيث يشمل على الحرف التقليدية والتراثية والبيئية، وهي أحد أهم الموروثات الثقافية والحرفية المصرية .
أما عن معروضات محلات هذا الحي، فهي عبارة عن تشكيلة من التماثيل والتمائم الفرعونية والقطع الفنية اليدوية المصنوعة من الزجاج والنحاس والفضة والخشب والجلد والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى الملابس الرجالية والنسائية وملابس الأطفال الشعبية، كما يباع بها أيضا الطرابيش والطواقي، بالإضافة إلى الأعشاب الطبيعية والبخور .
ويضم هذا المكان التاريخي أيضا محلات مختصة ببيع السجاد المشهورة بالسجاد اليدوي الشيرازي والعجمي والحرير، الذي ترجع صناعته إلى القرن الرابع عشر الميلادي، بالإضافة إلى التحف والكريستال وصناعة البردي المحلى برسومات فرعونية وبكلمات اللغة الهيروغليفية القديمة. كما تعرض حوانيت الخان العطور العربية والآسيوية والأوروبية مثل، العنبر والياسمين والفل .
أرابيسك يدوي
إحدى معروضات خان الخليلي ويشتهر هذا الحي السياحي، بالصناعات اليدوية مثل، أشغال الأرابيسك اليدوي ، وتطعيم الخشب بالصدف، والنقش على النحاس والفضة، والرسم على أوراق البردي والزجاج الملون ، وصناعة الحلي والعقود والعاج، و خياطة الملابس الرجالية والنسائية، والنرجيلة (الشيشة) والتي أصبحت من اشهر منتجات الخان .
ويحتضن هذا الحي أعتق وأشهر المقاهي في العاصمة المصرية، أكثرها شهرة مقهى الفيشاوي، الذي تجاوز عمره ال240 عاما، والسبب وراء شهرته أنه كان ملتقى الأدباء والشعراء والفنانين ليلا وحتى صلاة الفجر، وتحرص إدارة المقهى حتى الآن على تعليق صور هؤلاء الرواد في أرجاء المقهى كنوع من الترويج السياحي، وكان من أبرزهم الأديب المصري الحاصل علي جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ .