سيرة امرأة عنيدة .. تمسك بسلة الأمل .. وتقرر أن تحيا بيت العائلة .. تلك الذكرى الأثيرة البعيدة "تميم" ثمرة الأيام تكبر وتزدان بشارع الثوار النظام يضحي بالملك ليعيش ويسحق المعارضين! المؤامرة تحكم الجامعة .. المؤامرة تحكم الوطن. "إنني من حزب النمل. من حزب قشة الغريق, أتشبث بها و لا أفلتها أبدا من يدي. من حزب الشاطرة التي تغزل برجل حمارة. لماذا لا أقول إننا, كل أسرتنا, لا أعني أنا و مريد و تميم وحدنا, بل تلك العائلة الممتدة من الشغيلة و الثوار و الحالمين الذين يناطحون زمانهم, من حزب العناد؟ نمقت الهزيمة, لا نقبل بها. فإن قضت علينا, نموت كالشجر واقفين, ننجز أمرين كلاهما جميل : شرف المحاولة و خبرات ثمينة, تركة نخلفها بحرص إلى القادمين . عزيزي القارئ عزيزتي القارئة, أستدرك لأنهي حديثي بالسطر التالي:هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة, ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا" هكذا خطت الأديبة والأكاديمية المرموقة، الدكتورة رضوى عاشور، رائعتها الجديدة "أثقل من رضوى" الصادرة مؤخرا عن دار "الشروق" وأحد الكتب الأعلى رواجا خلال الأشهر الماضية بالقاهرة. لقد اختارت الأديبة لسيرتها أن تحمل اسم حكمة عربية تقول "أثقل من رضوى" في إشارة لتسميتها باسم سلسلة جبلية بالقرب من المدينةالمنورة تضرب به العرب في الرسوخ . في سيرتها، تضفر "رضوى" مذكراتها بمشاهداتها للثورة. استدعت كل شيء بداية من طفولتها وبيت العائلة المشرف على النيل بحي المنيل ثم بيتها الكائن على بعد أمتار قليلة من ميدان التحرير. تذكرت رحلة علاجها المريرة من مرض السرطان اللعين الذي داهمها واضطرها لمغادرة البلاد وإجراء جراحات خطرة ومتتالية بالرأس بأمريكا وربما كان أكثر ما يوجعها أن ذلك تزامن مع اندلاع شرارة الثورات العربية التي طالما حلمت بالمشاركة فيها وحرضت عليها كتابة وفعلا . استطاعت رضوى فيما بعد أن تشارك وزوجها وابنها بالثورة في موجاتها اللاحقة رافضين الاستبداد وقتل الأبرياء واعتقالهم وترويع الطلاب ونشر البلطجية المقنن خلال المرحلة الانتقالية التي قادها المجلس العسكري ومن بعده الرئيس محمد مرسي .. لكن أحداث الثورة، المعروفة للجميع، تصبح من دم ولحم حين تكتب عنها رضوى، وتدمجها بيومياتها. رحلة الألم تشغل رحلة علاج الكاتبة بأمريكا من مرض السرطان فصولا عديدة من السيرة، ربما لأن المرض كما تستعير الكاتبة من عبارة سعد الله ونوس ، المسرحي السوري الراحل، أنه يكسر أغلى ما في الإنسان وهو الإرادة .. وقد ابتليت رضوى بتورم خلف أذنها اليمنى منذ ثلاثين عاما لكنه بدأ نشاطه الخبيث مؤخرا وتطلب الأمر إدارة فروة رأسها واقتطاع أجزاء من جلد ساقيها وزراعة أنسجة جديدة غير التالفة لتغطي المخ .. جراحات معقدة وجلسات أشعة وعلاج مؤلمة .. انتهت بمعجزة شاركها بتلمسها زوجها ونجلها الشاعران الكبيران .. وانتهت بمئات الوردات والبالونات وأعلام مصر في استقبالها بالمطار. ومن الغربة يكتب تميم : "واللي هايقعد في بيته بعدها خاين / اللي هايقعد كأنه سلم التانيين/ للأمن بإديه وقال له همه ساكنين فين" في قصيدة شهيرة ألهبت شباب الثورة ، ثم كتب "يا مصر هانت وبانت كلها كام يوم / نهارنا نادي ونهار الندل مش باين" وبعدها كتب خلال مشاركته بالتظاهرات بالقاهرة "لما تشوف الشهيد تبقى السلامة خجل / وتبقى عايز تقول له يا أخي آسف" دفء البيت الكبير "بيت خشبي ملون بالأحمر و الأخضر له نافذة كبيرة, يقرر الصغار أنه دكان يبيعون فيه وهما لبعضهم البعض " ذلك البيت هو الذي استدعته ذاكرة الأديبة للعبة أطفال العائلة المفضلة في الماضي ببيت المنيل؛ حيث يجتمع تميم مع أبناء أخواله وخالاته ويمارسون اللهو بأبهى صوره الطفولي. و"تميم" سيكون بطلا لسطور عديدة بالرواية تحكي فيها رضوى عن لماضته المبكرة وقريحته الشعرية التي بارى بها أعتى الشعراء ببراءة بينما هو يمسك بطبلته ! تتذكر رضوى أخيها حاتم صانع البهجة ببيتهم، وأخيها ماهر، وتقول رضوى عن أمها السيدة مية عبدالوهاب ، والتي رحلت بعد أيام من رحيل ابنها البكر "طارق" وخلفت لكاتبنا حزنا هائلا :" كانت الأم ترسم وتعزف وتنظم الشعر، كانت تعتني بأبنائها كثيرا، ثم حين كبرت رضوى أعلنت العصيان .. ارتدت ملابس عصرية لا تراها الأم راقية، وقصت شعرها .. لكن ثمة ما عوض الأم عن تلك الجرأة حيث كانت رضوى من النابغين في التعليم وكرمها الرئيس جمال عبدالناصر في عيد العلم . بيان المذبحة .. وحكام مصر "ما معنى هذا الشطرنج؟ سقط الملك, هذا واضح. لم يسقط الوزير و الطابيتان و الفيلان و الحصانان. أعوان الملك مستقرون في أماكنهم" والحقيقة أن رضوى ترى أن السياسة الخارجية المصرية وفي المركز منها العلاقة بإسرائيل والولايات المتحدة معيار من معايير معدودة كاشفة لموقع السلطة الحاكمة وموقفها الفعلي من الثورة ومطالبها يمكن احتواء الثورة بتقديم هذا التنازل أو ذاك بإتاحة مساحة اكبر من الحريات، بفضح بعض الفساد، بمحاكمة الرموز الأبرز للحكم السابق، أما تبديل السياسة الخارجية فيدخل في نطاق التمرد على النظام العالمي وهو على رأس الممنوعات لا يضاهيه إلا الخروج على المنظومة الرأسمالية الحاكمة للكوكب !! رضوى تحكم نظرتها للسياسة في مصر نظرية المؤامرة بامتياز، وهي حين تتحدث عن دهاء النظام الفاسد الذي ظن البعض أنه سقط في ثورة يناير تقول : "إرضاء الجماهير الغاضبة ضرورة. يمكن التضحية بمبارك وأسرته و بعض رموز حكمه, تضحية مؤقتة أو دائمة.المهم النظام. التغني بالثورة و بشعب مصر العظيم, و طمأنته أن ثورته مصانة و أنها غيرت بقدر أو بآخر مسار البلد. لأن المهم هو النظام. تعيين وزارة يرضى بها الميدان, ينزل رئيسها إلى التحرير كأنما يطلب بركة الثوار قبل أن يسمي و يبدأ عمله.لأن المهم هو النظام. و لكن ما معنى النظام؟ يعني إعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية الظالمة التي ثار عليها الشعب.إذا تململ الشعب, و رفع الثوار أصواتهم بالاعتراض, نلقي القبض على رموز أخرى و نحاكمهم بل نحاكم مبارك نفسه و نرضي الناس برؤيته وراء القضبان ينادى عليه باسمه الرباعي فيجيب: أفندم, كأنه مجند أو مواطن مطحون له معاملة في مصلحة حكومية, لأن المهم, في نهاية المطاف, هو النظام" نعم إنه النظام الذي يعيد بعد الثورة بناء سلطة القمع, فض الاعتصامات بالعنف, تعقب الثوار, ضربهم و سحلهم و اعتقالهم و تعذيبهم و تقديمهم لمحاكمات عسكرية, أو ببساطة قتلهم دهسا متعمدا بسيارات مصفحة, تكسر جماجمهم و تقطع أوصالهم, أو بإصابة مباشرة بالرصاص أو الخرطوش في الرأس أو العينين, أو بغاز أعصاب محرم دوليا تقول رضوى التي تؤكد أن التشاؤم فعل غير أخلاقي برغم بشاعة الواقع: نرجع عالميدان شايلين حزننا عالشهيد و حزن أهله على أكتافنا و ندور على حد ياخد الحمل ده و يحوله لنور و أمل و مستقبل مشرق مانلاقيش .. نرجع بيه بيوتنا و ننام و هو على صدورنا .. و يوم بعد يوم يتحول الشهيد لرقم .. لورق .. لصورة .. لحفلة تكريم .. لمبلغ مالي و عمره ما بيتحول لشيء من اللي مات علشانه" ذاكرة الأرض سيرة رضوى يمكن أن تندرج ضمن أوصافها بأنها سيرة مكان بامتياز، فهي حين تتحدث عن جامعة عين شمس التي درست فيها طيلة أربعة عقود ، والتي يسمى المبنى الأساسي فيها "قصر الزعفران" كانت والدة الخديوي إسماعيل أول من سكنه ، وقد زرع لها الزعفران ليساهم بتحسين حالتها الصحية المتدهورة .. ، وقد كانت خوشيار أم الخديوي شقيقة برتيف نهال أم السلطان عبدالعزيز، رأس الدولة العثمانية، وكانت الشقيقة قد صفعت أوجيني على وجهها حين تأبطت ذراع ابنها عبد العزيز ولم تأبه لكونها امبراطورة بريطانيا. . تتحدث رضوى: "أريد لسلمى السعيد التي أطلقت عليها المجنزرة ثلاث طلقات خرطوش في كل خرطوشة منها ستون بلية أصابت وجهها و استقرت في ساقيها، أن تعلم أنها أصيبت بالقرب من بيت عرابي، و أريد لأولادها من بعدها أن يعرفوا أن أمهم و هي صبية في العشرين أطلق عليها النار في هذا المكان. و أريد ألا ينسى أولادها و لا أحفادها و لا أحفاد أحمد حرارة و مالك مصطفى و مينا دانيال و أشقاء جابر صلاح أن أهلهم و المئات غيرهم ممن استشهدوا أو أصيبوا في هذا المكان، كانوا و هم يصنعون له تاريخا جديدا، يتواصلون مع تاريخ لم يحكوا لنا عنه أو حكوا حكايات منقوصة ... لكي لا يأتي يوم تقام فيه عمائر عالية، فنادق أو شركات، أو قاعات للألعاب الرياضية و كمال الأجسام يتردد عليها ناس يجهلون عن قصد أو غفلة أن هذه العمائر قائمة على أرض روتها دماء. دماءٌ كثيرة. تظهر "رضوى" الامتنان لشباب الثورة وتذكر كثير منهم بالاسم في روايتها، ومنهم نوارة نجم ، وولدها تميم البرغوثي، وحامل العلم بشارع محمد محمود ، ورافع العلم فوق السفارة الإسرائيلية وغيرهم الكثيرين. لكنها أيضا تتذكر بعض شباب الباحثين المخلصين ومنهم شعبان مكاوي الذي رحل في ريعان شبابه بعد عناد مع المرض ودأب في طلب العلم وتحد للظروف المعيشية الصعبة وهو صاحب ترجمة لكتاب هام عن السيرة الشعبية لأمريكا. وهناك مصطفى سعيد الشاب الذي يدير مركزا لتوثيق الموسيقى العربية ببيروت صراعات "الزعفران" تصف الأديبة في صفحات سيرتها معارك شرسة خاضتها بين حركة "9 مارس" لاستقلال الجامعات وإبعادها عن هيمنة أمن الدولة، لقد كافأتها الجامعة بنفيها عن رئاسة لجنة ترقي الأساتذة، والتي تشهد كاتبتنا أنها لم تكن سوى عملا مضنيا يصيب صاحبه بالجنون المؤقت .. ومحاولات كثيرة لوقف إجازاتها رغم المرض .. لكنها تذكر كيف أشعل الطلاب ثورتهم لوقف مهزلة تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ، وواجهوا الفصل بل وكانوا هدفا للإصابة والقتل من قبل الداخلية ، وكيف انتصروا في النهاية . من مهازل الجامعات هو ما تصفه رضوى بالطلبة المنتسبين الذين يتضح لاحقا أنهم مخبرين بمباحث أمن الدولة، وكان كثير منهم يندس بمحاضراتها ويكتب عنها تقارير خاصة خلال معارضتها الشرسة لزيارة السادات للكنيست ودعمها للمظاهرات المنددة بالغارات الإسرائيلية على فلسطين أو لبنان وعلى فساد النظام الحاكم في عهد الرئيس المخلوع وسلفه أيضا. ولا تزال رضوى تؤكد نظرية المؤامرة بالجامعة، والتي يمكن أن تصيب الطلاب بحالات تسمم جماعي بمدينة الطلبة المهملة، لشغل الرأي العام عن الاحتجاجات الأهم، أو في حادث مقتل الدكتور علاء فايز أول رئيس منتخب للجامعة وأحد العلماء البارزين بزراعة الكبد والذي رحل بالتزامن مع الدكتور علاء عبدالهادي أحد أشهر أيقونات شهداء الثورة وطالب آخر من الجامعة مشارك بمسيرة بالعباسية لرفض المجلس العسكري الحاكم آنذاك فاصل .. للتأمل من الأشياء اللطيفة بالسيرة، أن الكاتبة تعمد لمخاطبة قرائها، أحيانا تحفزهم على مواصلة القراءة والصبر على تفصيلات عملها بالجامعة أو يومياتها خارج البلاد مع مرض السرطان .. وأحيانا تخبرهم أنها تشعر بالذنب لأنهم بالتأكيد يصطحبون مناديل كثيرة للبكاء .. وأنها قررت أن تهديهم أشياء مسلية وممتعة كفاصل كوميدي بأي مسرحية تراجيدية عالمية .. في فواصل السيرة اللطيفة، تذهب رضوى عاشور لتأمل فعل الكتابة، باعتباره رديف للعزلة، والابتعاد من أجل الاقتراب بمعنى أدق، وتتأمل بلوحات طالما ألهمت خيالها كنسجية "وحيد القرن" بمتحف نيويورك، والتي تجسد مقاومة ذلك الحيوان لمحاولات قتله بالغابة .. أو لوحة الجرنيكا التي أبدعها بيكاسو إبان قصف الطائرات الألمانية لقريته الإسبانية خلال الحرب العالمية الثانية .. وهناك اللوحة المكسيكية التي أصر الفنان سيكيروس ورفيقه أورسيكو أن تكون فضيحة لأمريكا لإبادتها الهنود الحمر .. وانتهاء بالجرافيتي المنتشر بمصر الذي يجسد يوميات المجازر والسخرية من المستبدين ووداع الشهداء وهو يشبه ما فعله الفلسطينيون .. وللشعر موطن أصيل بالسيرة، فلطالما اجتمع ولدها وزوجها، تميم ومريد مع كبار الشعراء وأهمهم محمود درويش وأمل دنقل ودوما كانت تجمعهم بأسرة صلاح جاهين وفؤاد حداد، وتربطهما صلات نسب معروفة، اجتماعات دورية ببيت رضوى لقراءة الشعر والعزف على العود. تقول الأديبة بمذكراتها : رضوى بالتكوين و الوراثة, فيها هشاشة, قلقة, تثقلها المخاوف و وطأة مجريات الحياة. مصابة على ما أظن باكتئاب من نوع ما. اكتئاب مزمن. لا تأخذه مأخذ الجد ما دامت قادرة على مغالبته أو تجاهله. تستيقظ في الصباح مرهقة كأنها في نهاية يوم عمل مضن. تظن أنها غير قادرة على مغادرة الفراش و الذهاب إلى عملها, و لكنها في نهاية المطاف, تقوم و تستعد للخروج إلى العمل و تخرج. تذهب إلى الجامعة. تدرس. تحتفي بطلابها و ظزملائها. تبدو مشرقة و مقبلة. تمنح الأمل, كأنما بدأت يومها بقطف ثماره و أودعتها سلتين كبيرتين خرجت بهما لتوزيع ما فيهما على من يطلب و من لا يطلب.. تستدير رضوى بدهشة قائلة "لا أحد يجرؤ على الرحيل مخلفا وراءه كل هذا الحب" وتؤكد أن "الحياة في نهاية المطاف تغلب، وإن بدا غير ذلك .. "