الفنان جميل شفيق فنان مصري حقق نجاحا ملحوظا وبصمة خاصة في الحركة التشكيلية المصرية، مارس اتجاهات متنوعة من الفن كالرسم والنحت والتصوير بالألوان المائية والأكريليك وغيرها. وفي معرضه الأخير الذي أقامه بجاليري "مصر" بالزمالك قدم شفيق نحتا تصويريا على الخشب في تجربة رائعة يجمع فيها بين الرسم والنحت، لم تكن تلك التجربة الأولى للفنان في هذا المعرض، بل قدم تلك الفكرة في ثلاثة معارض أخرى سابقة، وبنفس العنوان "طرح بحر"؛ فكانت التجربة الأولى في مركز الجزيرة للفنون عام 1999، وأخرى في قاعة "أكسترا" عام 2008؛ حيث عمل وقتها الفنان على هذه الفكرة ثم قام بتطويرها في هذا المعرض، فهو يتناولها بشكل مختلف في كل معرض، لكنه استطاع أن يقدم معرضه الأخير نحتا خالصا، بجانب لوحات الفحم التي تحمل نفس أسلوب الفنان في أعماله بالحبر الشيني والتي تبهر المتلقي بدقتها وقوة تعبيرها. كان الناقد الكبير محمود بقشيش أول من قال عن هذه التجربة للفنان أنها فن جديد يسمى "نحوير" أي بين النحت والتصوير، واليوم يقدم الفنان نحتاً كاملاً ذات "الفورم" الكامل، وليست كما تعودنا عليه كمصور أو كرسام، أو محاولا المزج بين النحت والتصوير. وهو يكون "الفورم" بحسب شكل الخشب الذي يستخدمه؛ حيث يكيفه تبعاً لموضوعه الذي يتناوله؛ فالفنان يعثر على الخشب الذي يقوم بنحته من البحر، والذي ينثره البحر على الشاطئ، فيجففه لمدة عام كامل في الشمس حتى يجف تماما من المياه ويستطيع نحته. وجميع أعمال المعرض من نفس نوع الخشب عدا عملين استخدمهما من خشب السرسوع. ومن مميزات خشب البحر تلك النتوءات والآثار التي تطبع على سطحه من تراكمات الزمن، كالسوس والقواقع العلاقة به وغيرها؛ حيث يتم تعطينه في البحر مما يعطي تأثيرا جميلا من ملمس ولون، وخطوطه المتنوعة كالمنحنية والمتعرجة وغيرها التي تعطي شكلا وإحساسا مبهرا للخشب. وعن الموضوعات التي تناولها الفنان في أعماله، فهي لم تختلف عن تلك الموضوعات التي أثارته من قبل، والمرتبطة بالبيئة والأشخاص من حوله، فطبيعة الفنان السكندرية جعلته يتعلق في بعض لوحاته بالسمكة والبحر الذي نراهما في موضوعاته في كل عمل منهم في تكوين مختلف يحكم حبكته، كما تناول الفنان الأسرة المصرية سواء في الريف أو الصيادين وخلافه بأساليب مختلفة، فتارة نجدها أبيض وأسود بالقلم، وتارة أخرى بأصابع الفحم، وغيرها بالخشب؛ ولذلك فموضوعاته لم تكن محددة بقدر العالم الذي عاش فيه وأعطاه إيحاءات ومخزون معين، فمثلا في لوحة السيدات اللاتي يجلسن بالسمك استوحاها من "برج البرلس"؛ حيث وجد السيدات هن من يبيعن السمك وليست الرجال؛ ولذلك استرجع الفنان ذلك المشهد الذي رآه واحتفظت به ذاكرته كي يعبر عنه في اللوحة، فالفنان يستغل مخزونه من الطبيعة ليخرج بشكل غير مباشر على أعماله. ومن الملفت للنظر في هذا المعرض والذي لم يستخدم فيه الفنان الحبر الشيني "الاتشينج" والذي ميزه طيلة مراحله الفنية السابقة، أنه استطاع أن يوصل للمتلقي نفس تأثير تلك اللوحات ولكن بالفحم، ففور تقع عين المتلقي على اللوحة يخدع في الوهلة الأولى ويظن أن الأعمال بالحبر الشيني، إلا أنه يفاجئ بعد النظر إليها جيدا إنها بالفحم ولكن لها نفس التأثير والإحساس الذي يتميز به الفنان. فالفنان اضطر لأن يترك تلك الخامة "الحبر الشيني" لأنه لم يكن لديه القدرة البصرية التي كان يتمتع بها سابقا لاستخدام تلك الخامة فعوض عنها باستخدام الفحم، مستخدما نفس العالم وموضوعاته بتناول مختلف. وعن الخامات التي تناولها الفنان فقد التحق بدورة حفر على الخشب لكنه لم يطبع أعماله الحفر منذ عشر سنوات، وكان السبب في بعده عن هذا المجال أنه أحب خامة الفحم فترك الحفر، ثم استهواه النحت فترك الفحم، فهو يترك نفسه ليعمل في الخامة التي تستهويه في وقت معين. وقدم الفنان في هذا المعرض ست لوحات فحم، وسبع لوحات صغيرة، و33 قطعة نحت تناول فيها الحيوانات برؤية مختلفة أظهرت جمال القطع الخشبية التي استخدمها في النحت، فنجد البقرة والغزالة والمعزة والحمار وبعض الطيور، والسمكة، كما تناول الأشخاص، وقدم الراقصة والعازف. ومنهم أشخاص استوحاهم من الفن الفرعوني يحملون السمك فوق رؤسهم، وغيرهم يظهرون بشكل ثنائي كأسرة مكونة من رجل وامرأة يحملان سمكة. وفي بعض المنحوتات رسم الفنان بورتريهاته على تلك القطع الصغيرة من الخشب، لتذكرنا في بعضها بفن الأيقونات ووجوه الفيوم ذات العيون الواسعة، فهو ينحت عشرات الوجوه التي يعبر كل منها عن حالة معينة، ويترك فيها جميعا ملمس الخشب الطبيعي على سجيته ليعطي تأثيرا ظاهرا على الوجوه، فتبدو مناطق معينة من الوجه قاتمة اللون، وغيرها فاتحة اللون، كما تظهر ملامسه في بعض الأحيان وكأنها تهشيرات القلم الرصاص الذي يظلل به الفنان الوجوه، لتعكس أسلوبه الذي يتبعه في الرسم، كما يترك الفنان قطع الخشب كما هي بطبيعتها، فأطرافها متعرجة لم تكن متساوية في بعض الأحيان، وفي أحيانا أخرى تكون شبة مستطيلة، أو شبة دائرية، بها انحناءات، وقطع صغيرة تظهر وكأن الفنان يأخذ مقاطع معينة من الوجه ليصوره. صور الحصان في عدة أعمال على علاقة وطيدة بالإنسان الذي يظهر معه في نفس العمل وكأنهما صديقان يتناجيان، يتراقصان أحيانا، ويلعبان في أحيان أخرى. وقد فرغ الفنان في بعض أعماله الخلفيات؛ لتظل الأشكال وحدها هي العمل الأساسي، وما حولها هو خلفية المكان. في مجمل أعماله يشعر المتلقي بمدى إحساسه بطبيعة الأنثى الحالمة، وينعكس وجدانه في الإحساس بسحر حواء، وكأنها أصل الجمال، وتمثل فتاه أحلامه، وتثير هذه الأعمال تساؤلا عند المتلقي، من خلال التطور والتنوع المستمر في إبداعات الفنان جميل شفيق، وتناوله الجريء في استخدام الخامات المختلفة، والتي قد تبدو في الوهلة الأولى وكأنها متناقضة تماما، إلا أنه يصالح فيما بينها بأسلوبه المميز الذي يعكس إحساسه الصادق بالعمل. والجميل في ممارسة "جميل" في الفن، أنه يعتزل المجتمع تماما، ويتفرغ للخيال والإبداع على شاطئ البحر؛ حيث الأفق البعيد، الذي يثير الخيال، ويصله بأبعاد لا نهائية. ويقول الفنان عن هذه التجربة ل"محيط": هي تجربة سعيد بها، وهذا ما شعرت به عند الناس؛ حيث سمعت لبعض التعليقات عن الخامة اسعدتني، فخامة الخشب خامة حنونة.. ليست كخامات النحت الأخرى.. مريحة.. بها إنسانية، وهذا الانطباع الأساسي عند الجمهور، وأنا عشقي على الدوام أنسنة الأشياء، فأعبر عن الحصان، السمكة، والأشياء التي يكون بينها وبين البشر ترابط".