تعتبر الأغانى وثائق للتأريخ السياسى والاجتماعى والثقافى والمزاجى فى مصر ، وبين كل الأغنيات الوطنية التى شاعت وذاعت وسط الناس عبر عهود وعقود ، فإن أغنية (تسلم الأيادى) لمجموعة من المطربين احتلت مركزاً خاصاً ومكانة مدهشة .. ليس لقيمة لحنية فنية ، أو نظم شعرى محكم فهى أغنية شعبية بسيطة للغاية ، وإنما لأنها صادفت شعوراً إنسانياً جارفاً اندفع كإعصار فى لحظة زمنية بعينها ليطيح فى عنفوان بجماعة الإخوان ويطهر نظام الحكم مما لحقه من دنس ، ولينادى على القوات المسلحة كي تساند الكتل المكتظة بعشرات ملايين المصريين الذين أعلنوا ثورتهم الحقيقية فى 30 يونيو. نحن أمام أغنية سهلة التردد ، ذات إيقاع متكرر وثابت مثل أغانى الأفراح الفلاحى والبلدى ، وأمام نغمة واحدة يغنيها كل من المطربين الستة ، والمطربات الثلاث الذين قدموا لنا (تسلم الأيادى) ، كما أننا أمام (كليب) مصاحب لعرض الأغنية يظهر فى عدد من لقطاته الفريق أول عبد الفتاح السيسى القائد العام للقوات المسلحة والنائب الأول لرئيس الوزراء وزير الدفاع والإنتاج الحربى ، الأمر الذى خلق ترافقاً فى الصورة النمطية لتلك الأغنية ، وصورة القائد العام .. حتى أن بعض أولاد البلد صاروا يعرفونها باسم : (أغنية السيسى) .. وبناء على ما سبق ، اختلف الأثر النفسى لذيوع أغنية (تسلم الأيادى) التى أصبحت الوثيقة الإبداعية الأكثر تعبيراً عن المشهد السياسى والوطنى الحالى . فحين ترى النغمات السريعة المصاحبة لها ، ستجد نفسك أمام (حالة) تشيع بالفرحة والتصفيق والزغاريد ، وبتيار عاطفى حار وآسر يعبر عن اعتزاز المصريين بقواتهم المسلحة وبالقائد العام ، كمثل الحالة التى أفشتها أغان مثل : (بالإحضان ، ويا حبايب بالسلامة ، وقلنا ح نبنى) ، ولكن فحص الأثر النفسى لذات الأغنية على قوى الجمود والتطرف والتخلف والرجعية والإرهاب والإخوان هو الأشد طرافة فى سياق تحليلنا ل (تسلم الأيادى) . فما أن تبدأ نغمات وإيقاعات الغنوة فى الانسياب من جهاز تليفزيون أو تسجيل فى سيارة أو مقهى ، أو – حتى – (دى . جى) لفرح أو حفلة حتى تبدأ فلول الإخوان فى التشنج والصراخ والململة والترفيص وكأن مساً من الجن أصابهم .. ولقد بات ذلك المشهد متكرراً على نحو جعل من الإخوان والإرهابيين مسخة للعيال والبنات فى كل حارات البلد ، حتى أنهم يستخدمون (تسلم الأيادى) أحياناً لإغاظة الإخوان الإرهابيين فيغنون مقطعاً منها ، ويطلقون سيقانهم للريح فيما الإرهابيين يتمرغون على الأرض من فرط الغيظ والموجدة (كما فى الصورة التقليدية القديمة لعبيط القرية حين يستثيره عيال الفلاحين) . أغنية ضد الإرهاب ولقد نشرت الصحف السيارة فى الفترة الماضية أخباراً عن هجوم بعض الإخوان على مطربين أو (دى . جى) فى الأفراح بمجرد سماعهم الأغنية التى وصف أحد الظرفاء تأثيرها عليهم فى (الفيس بوك) بأنه يطابق تأثير أغنية (العتبة جزاز) على المرحوم الأستاذ فؤاد المهندس فى فيلمه الكوميدى الشهير الذى لعب فيه دور (فرافيرو العجيب) . وصرنا نرى فى التقارير الإخبارية لقطات لربات بيوت وأطفال وشباب يحملون صور السيسى وأعلام مصر ويهتفون : (تسلم الأيادى) كوسائل (لمواجهة) التخريب والإرهاب الإخوانى ومحاولة تعطيل الحياة العامة ورفع شعارات ساقطة منحطة فى مواجهة المصريين مثل : (لن يهنأ الشعب يوماً) .. يعنى الغنوة رغم كونها وسيلة (رمزية أو معنوية) أصبحت وسيلة (مادية) للمقاومة ، ولدحر فلول الإخوان المندفعين إلى إرهاب الناس ، وتخريب المنشآت والمؤسسات . وفى جانب مهم لتأثير أغنية (تسلم الأيادى) فإنها أفضت إلى تناسل وتكاثر الأغنيات الوطنية فى البلد ، فأصبحنا أمام فيض من تلك الأغانى التى تسهم فى صناعة وصياغة زمن جديد بعد الإطاحة بالاحتلال الإخوانى.والشىء اللافت والمثير للسخرية فى ظاهرة (تسلم الأيادى) أنها باتت المعادل الموضوعى للشارة رباعية الأصابع السخيفة التى راجت بين الإخوان ، وإن كانت الغلبة ل (تسلم الأيادى) على نحو كاسح ، إذ أصبحت فى أحد معانيها مرادفة (للفرح) فى حين كانت شارة رابعة تعبيراً عن (الغل) ، وكما نعرف فإن الإنحياز الإنسانى الطبيعى هو للمشاعر الإيجابية مثل الفرح ، وليس للطاقة السلبية مثل الغل . وأعرف أن الارتباط الكاسح للجماهير بأغنية (تسلم الأيادى) أطلق شعوراً بالإحن والغيرة الشديدين فى نفوس بعض الصييتة والمطربين ذوى الميول الإخوانية رغبة فى تشويه حضور (تسلم الأيادى) ، فانطلقوا يتحدثون عن أنها انبتت على جملة لحنية مقتبسة من أغنية رمضانية للسيدة شريفة فاضل شدت بها منذ حوالى نصف قرن وهى : (تم البدر بدرى .. والأيام بتجرى)، والحقيقة أن التشابه أو التطابق موجودان فعلاً ، ولكن مرور كل ذلك الزمن على غنوة شريفة فاضل جعل من لحنها حالة فلكلورية يمكن إعادة إنتاجها ولا ضرر ولا ضرار ، فلا يمكن – مثلاً – الحديث عن أن جملة قصيرة من أغنية (كان عهدى عهدك فى الهوى) هى اقتباس من أوبرا عايدة لفيردى . ولقد سألت موسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب فى حوار أجريته معه عام 1987 ما الذى يمكن اعتباره (اقتباساً) ، وما الذى تنظر إليه بوصفه (سرقة) ، فأجابنى – بثبات كامل – بأن ما يتراوح بين مازورة واثنتين ليس سرقة. وإذا أخذنا الأستاذ محمد عبد الوهاب مرجعية (ويا له من مرجعية) فى هذا السياق فإن اقتباس (تسلم الأيادى .. تسلم يا جيش بلادى) من (تم البدر بدرى .. والأيام بتجرى) ليس سرقة ، وبما يدحض سخافات بعض الشاعرين بالإحن والغيرة من المطربين الإخوانجية الذين أرادوا هزيمة التأثير الكبير لأغنية (تسلم الأيادى) على المزاج العام .. وبيقين فإن دوافع المطربين الإخوانجية كانت فى معظمها (سياسية) وليست (فنية) . وأخيراً فإن المزاج المشترك لمجموعة المطربين لا بل والفنيين الذين أنتجوا أغنية (تسلم الأيادى) كان عاملاً أساسياً فى شيوع الصدق بين نغماتها وكلماتها ، وفى قدرتها على الوصول إلى الناس ، والنفاذ إلى مشاعرهم ووجداناتهم. فأنت أمام مجموعة من المطربين الشبان (ما عدا الأستاذ سمير الإسكندرانى) فرحين بجيشهم وبقائده العام ، وبنجاح ثورة الشعب ضد الاحتلال الإخوانى .. وقد انطلقوا يغنون شطراتها بإنفعال حقيقى جعل منها أغنية 30 يونيو أو أغنية السيسى .