ملك جديد يعتلي عرش بلجيكا، ويشكل لحظة فارقة في تاريخ البلاد التي طالما ما ارتبط فيها انتقال السلطة بالتوازنات والتوترات، حيث عاشت بلجيكا يوماً تاريخياً مع تنازل الملك ألبرت الثاني عن العرش طواعية لابنه فيليب ليصبح العاهل السابع. وقد توج الأمير فيليب رسمياً الأحد الماضي بعدما أدى اليمين الدستورية أمام البرلمان، ويأتي تنازل الملك ألبرت عن العرش بعد ثلاثة أشهر من تنازل ملكة هولندا السابقة الملكة بياتريكس عن العرش لمصلحة ابنها وليم ألكسندر. وأقسم فيليب البالغ من العمر 53 عاماً باللغات الرسمية في بلجيكا "الفرنسية والألمانية والهولندية" على احترام الدستور وقوانين الشعب البلجيكي للمحافظة على الاستقلال الوطني ووحدة الأراضي، غير أن مطالب الانفصال تعد من أبرز التحديات التي تواجه الملك الجديد، مع المرة الأولى التي تشهد خلالها بلجيكا تخلياً عن العرش بصورة طوعية. وفي سياق آخر، لم يدع أي من الملوك والقادة الأجانب إلى الاحتفالات، حيث كان رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو الشخصية الوحيدة الحاضرة، ورغم ذلك هنأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بيان على موقع الكرملين الملك الجديد. انقسام حاد وجاءت مراسم تنصيب الملك الجديد ليعكر صفوها الانقسام بين جزء الفرانكفوني المؤيد للنظام الملكي، وبين دعاة الانفصال عن الفلمنكيين، ووسط هذه المواقف المتباينة يقول البعض: إن الملك هو الرمز الوحيد القادر على توحيد البلجيكيين من الفرنسيين والفلمنكيين والألمان، وهذا ما أنجزه الملك السابق حين أمضت الأحزاب 541 يوماً دون النجاح على الاتفاق على تشكيلة الحكومة، حينها لعب الملك دوراً كبيراً للخروج من الأزمة. وتعاني بلجيكا من انقسام شديد، إذ يسعى المتحدثون بالهولندية إلى استقلالية أكبر لفلاندرز في الشمال، ويتوجسون من العائلة الملكية التي ينظر لها على أن جذورها تمتد إلى منطقة والونيا التي يتحدث سكانها الفرنسية في الجنوب. وقالت صحيفة "ليكو" الصادرة بالفرنسية في صدر صفحاتها: "ملك واحد.. وبلدان". في حين أن صحيفة "دي شتاندارد" التي تصدر بالهولندية لم تجعل أخبار العائلة الملكية تتصدر صفحاتها، بل كان الموضوع الأهم بالنسبة لها عن الضرائب. وأظهر استطلاع للرأي أن أقل من نصف المواطنين في المنطقة التي تتحدث الهولندية، يعتقدون أن "فيليب" سيكون ملكاً صالحاً بعد تنحي الملك ألبرت الثاني البالغ من العمر 79 عاماً. وكان الملك ألبرت الذي أمضى نحو 20 عاماً على العرش، أعلن في وقت سابق أن ظروفه الصحية لا تساعده على مواصلة مهام الملك، وحث الشعب البلجيكي في خطابه الأخير على "منح الدعم" لابنه الأكبر البالغ من العمر 53 عاماً. نبذة ملك ويشار إلى أن الأمير فيليب المولود في 15 أبريل 1960 أصبح الملك السابع في تاريخ الأسرة المالكة في بلجيكا، باعتباره الابن الأكبر للملك ألبرت الثاني، وتلقى الأمير فيليب تعليمه من جامعة أكسفورد البريطانية وجامعة ستانفورد الأمريكية، وتدرب أيضاً على الطيران في سلاح الجو البلجيكي. ويعتبر ملك بلجيكا الجديد أمام فرصة ثانية لحكم البلاد بعدما استبعد من تحمل هذه المسئولية عقب وفاة عمه الملك بودوان الأول سنة 1993، حيث اعتبر آنذاك غير جاهز للاضطلاع بأعباء هذا المنصب، لكن هذه الأعباء لم تخف مع مرور الوقت، بل إن تنصيب الأمير أعاد الجدل من جديد حول سلطات الملك ومطالب الانفصال، بل وإلغاء النظام الملكي برمته. ويقوم نظام الحكم في بلجيكا على الملكية الدستورية الوراثية، ويتم باعتلاء البكر العرش أياً كان ذكراً أم أنثي وذلك منذ العام 1901، بحيث إن الملك يقوم بدور رمزي فقط في إدارة شئون الدولة، ومن ضمن المهام التي يتولاها الملك في بلجيكا محاولة حل الأزمات الدستورية التي تعصف بالبلد في ظل التوترات المتكررة بين السكان من أصل فلمنكي والسكان من أصل فرنسي. ويعين الملك في بلجيكا الوسطاء ورؤساء الحكومات المحتملين لإدارة المحادثات الائتلافية بعد الانتخابات، في حين تحظى الأسرة المالكة في بلجيكا باحترام السكان الفلمنكيين والسكان من أصل فرنسيين رغم الاختلافات القائمة بينهما. ومن ناحية أخرى، كان الملك ألبير الثاني المولود في السادس من يونيو 1934، ويعتبر النجل الثاني لليوبولد الثالث والملكة أستريد، الملك السادس لبلجيكا في التاسع من أغسطس 1993 بعد وفاة شقيقه المفاجئ، وهو أول ملك بلجيكي يتنازل طوعاً عن العرش في تاريخ البلاد. ملك جديد سيجلس ملك بلجيكا الجديد على العرش لكن بدون تاج ولا صولجان، تقف بجانبه زوجته "ماتيلدا" التي تتمتع بشعبية وجاذبية لدى الشعب، وأبناؤه الأربعة من بينهم وريثة العرش الأميرة إليزابيث التي تبلغ من العمر 11 عاماً. والجدير بالذكر أن الحكم الملكي عموماً شهد تغيرات متعددة حول العالم هذا العام، بدءاً من تنازل ملكة هولندا عن العرش بعد حكم استمر 33 عاماً لصالح ابنها وليام ألكسندر تزامناً مع احتفال بلادها بيوم الملكة في أواخر شهر أبريل الماضي، ثم أعلن أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني رسمياً في خطاب بثه التلفزيون الرسمي في 25 يونيو الماضي تنازله عن الحكم لنجله الشيخ تميم، 33 عاماً، ليصبح أميراً للبلاد خلفاً لوالده. وفي النهاية يمكن القول أن الأيام القادمة كفيلة بالكشف عن قدرة الملك الجديد في مواجهة هذه التحديات المختلفة، وعلى قدرة البلجيكيين في تحويل التعددية العرقية واللغوية والسياسية إلى صيغة تعايش مشتركة تجعل من تنوعهم نعمة وليس نقمة، أياً كان نظام الحكم في البلاد.