رمضان فى مصر له طقوس معينة تميزه عن شهر الصيام فى الدول الإسلامية .. الفوانيس وموائد الرحمن والياميش والسهرات فى الخيام أو أمام شاشات التليفزيون ليست وحدها التى تعطى الشهر الفضيل مذاقاً خاصاً .. ولكن هناك أيضاً مباريات الكرة الخماسية والدورات الرمضانية فى الأحياء الشعبية وغيرها.. غير أن رمضان هذا العام تغير .. انتقلت إليه عدوى التقسيم التى عرفها المصريون منذ أن حكم "الإخوان" مصر.. فبعد أن كنا نعانى من الأهل والعشيرة والنظرة "الدونية" إلى ما عداهم بإعتبارهم علمانيين وكفاراً ملحدين ، أصبحنا الآن وبعد الإطاحة بهم منقسمين إلى أنصار مرسى الرئيس المخلوع , ومؤيدو الشرعية الشعبية .. تحلقنا كمجموعة أصدقاء قبل سحور يوم الأربعاء الماضى فى مقهى بميدان الحسين اعتدنا السهر فيه بليالى رمضان ثم نصلى الفجر فى مسجد حفيد الرسول عليه الصلاة والسلام ونمضى إلى منازلنا لنأخذ قسطاً من النوم .. وكانت أول جلسة للأصدقاء سيد حسين الصحفى ومراد هلال صاحب بازار بخان الخليلى وإبراهيم النويشى تاجر الأقمشة والأسطى أحمد أبو شهبه المطبعجى وأنا .. ورغم تباين المهن واختلاف المشارب إلا أن صداقتنا بدأت فى مسجد سيد شباب أهل الجنة وتراكمت على مر السنين.. وبدأ الحديث عن الرئيس السابق.. قلت أن مرسى الذى يقف مؤيدوه فى ميادين "الشرعية والشريعة" بإعتباره "أيقونة" رمضان ومصدراً للإلهام وطلب الغفران ، يقف أيضاً خصومه فى ميادين " الشرعية الشعبية " بإعتباره سارق فرحة رمضان ومنهلاً للاحتجاج على حكم "الإخوان" والخلاص من "تجار الدين".. وقال الحاج إبراهيم النويشى أن رمضان هذا العام فيه مرارة السخرية بدلاً من روح التكافل والتراحم .. فكما أن للحقيقة وجهين ، فلرمضان فى مصر وجهان أيضاً .. ففى الوقت الذى تباع فيه بميدان التحرير شارات حمراء مكتوب عليها اللهم بلغنا رمضان بلا "إخوان" وفوانيس على شكل خراف ، فإن ميادين "الشرعية و الشريعة" تسخر كذلك بطريقتها الخاصة من العلمانيين "أعداء الدين" و"الإنقلابيين" عشاق الحكم العسكرى .. وعاد سيد حسين ليقول أن الإخوان انقلبوا فى سخريتهم فبعد أن كانوا يتهمون العلمانيين "بالصيهوليبرالية" أصبحوا يستنجدون بواشنطن وتل أبيب وذلك بعد المواقف الشاذة لامريكا وحليفتها إسرائيل فى التعاطف مع "الشرعية والشريعة" .. وتدخلت مقاطعا أنه رغم أن رمضان شهد إنقساماً وفرقة وشحناً بين معسكرين، لكن لا ننسى أنه خرج بفكاهات كثيرة منها أن الرئيس أوباما سيوجه كلمة لتهنئة المصريين بقدوم رمضان من منصة رابعة العدوية ويعلن عودته لجذوره الإسلامية! (التضليل) ثم تدخل مراد هلال فى الحديث ليقول أنه غير مقتنع بالمشهد الإعلامى الحالى فنفس القنوات التى تهلل لسقوط الرئيس مرسى هى نفسها التى هللت يوم انتخابه وأطلقت عليه أول رئيس مدنى منتخب - حتى الصحف الحكوميه ومازال الكلام لمراد - التى كانت تمدح مرسى ويسافر معه رؤساء تحريرها غيرت جلدها فى لحظات بمجرد سقوطه.. نفس المنطق حدث مع مبارك ، فالذين كانوا يمدحونه تحولوا عنه وأطلقوا عليهم المتحولون ، باستثناء قلة قليلة استقالت فور سقوطه لأنها لم تستطع أن تعمل مع غيره.. ويعود سيد حسين ليقول أنه إذا كان هناك "تحول" و "ارتداد" فى موقف صحفيين وتليفزيونيين ، فإن هناك أيضاً "تزويرا" و "تضليلا" من جانب الإخوان على شبكة الانترنت .. فقد فبركوا صورة لأطفال قتلوا فى المذابح التى ارتكبتها قوات بشار الأسد فى سوريا وقالوا أنهم لقوا مصرعهم برصاص الجيش أمام الحرس الجمهورى .. ويؤكد حسين أن هناك صوراً لضحايا اليمن وأخرى من بنجلاديش يتم تداولها على مواقع الإخوان وإتهام الجيش بقتلهم.. وأعود للحوار فأقول أن الإسلام فى مصر ليس معقله ميدان رابعة العدوية أو ميدان النهضة بالجيزة .. الإسلام فى كل مكان .. الفجر الجديد الذى تستقبله مصر حالياً هو فجر مشتت مبعثر قابل للتفاؤل وعرضة للتشاؤم ، وذلك بحسب الزاوية والفصيل والانتماء والتوجيه الذى يتم استقباله فيها ، بحر الأكاذيب الهادر الذى يصارع أمواجه المواطن المصرى حالياً لا يتوقف ، فمن الأمواج ما تدفع فى طريق تقديس دور الجيش فى تحقيق الإرادة الشعبية المصرية فى التخلص من حكم الجماعة وحلفائها من الجماعات الدينية المختلفة ، وهى تتجسد فى التركيز على ما يجرى فى ميادين الثورة الشعبية المنقلبة ضد الدكتور محمد مرسى ، دوناً عن ميادين التأييد! ومن الأمواج ما يدفع فى طريق شيطنة الجيش والتقليل من شأن الملايين المصره على إنهاء حكم الجماعة التى وضعت أمن مصر القومى والداخلى فى خطر شديد وإنحازت لمصالحها على حساب المصريين ، بحسب خصومها ، فتجد الكاميرات لا تنقل سوى مجريات ميادين التأييد مختزلة مصر فيها . مثل هذا التوجه يعنى كذلك بث الأخبار وتحليلها فى ضوء ما يتعرض له المتظاهرون "السلميون" من مؤيدى الدكتور محمد مرسى من ترويع و هجوم ، ويتطلب ذلك بالمرة اقتطاع كل ما يرد من أسلحة مختلفة وهجوم من قبل أولئك المؤيدين على العمارات السكنية لاعتلائها أو استفزاز قوات التأمين حتى تكتمل الصورة الموجهة إلى مؤيدى الداخل والخارج ، سواء من أنصار الحكم الإسلامى لرفعة كلمة الإسلام أو لتنفيذ مخططات دولية تحت شعار الشرعية. (زوال الغمة) لقد شهد يوم الجمعة الماضى إفطاران فى التحرير ورابعة وطبعاً لغرضين مختلفين ، فبينما كان الأول عبارة عن تفاخر بالذبائح وأكبر مائدة رمضانية عرفتها مصر بالإضافة للوجبات المعلبة وزجاجات المياه وكله يهون من أجل الرئيس .. نجد إن إفطار "لم الشمل" فى التحرير الذى نظمه الثوار كان هادئاً وبسيطاً تأكيداً لسلمية الدعوة للمصالحة ، بينما ارتفعت فى رابعة والنهضة العصى الحديدية والشوم الخشبية والأسلحة الآلية والبيضاء والتأكيد أيضاً على سلمية المظاهرة!! وقبل أن نقوم لصلاة الفجر بعد الإنتهاء من السحور قلت للأصدقاء الذين بدأوا يتثائبون بقوة .. "أن تداخل الحق والباطل , وتطويع الصورة لتتواءم والرغبات ، وتغيير الواقع ليصب فى مصلحة الغايات، واللعب على أوتار العواطف بالدماء والقتل يكتسى المشهد المصرى بلون رمادى قبيح، وتنوء الشاشات بضبابية مقيتة ، وتنضح التدوينات بطائفية كئيبة ، وتنطلق التغريدات بتحريضات دموية ويتضاءل حجم الحقيقة وتتضخم مساحة الكذب.ويبدو المشهد أقرب إلى الخيال غير العلمى حين تتواتر طلبات لمصريين مقيمين فى الخارج على متن "فايسبوك" و "تويتر" تناشد الأهل والأصدقاء – كل فصيل على حدة – إرسال ما لديهم من مقاطع مصورة أو صور فوتوغرافية لإرسالها بدورهم إلى الصحف ومحطات التليفزيون فى الدول المقيمين فيها لإثبات حقيقة ما يحدث فى مصر ، الذى هو إما إنقلاب عسكرى على شرعية أول رئيس مدنى منتخب أو إنقلاب شعبى عليه. يحدث هذا فى العام 13 من الألفية الثالثة المعروفة ب "عصر تقنية المعلومات" وزمن المعلومات دون حدود وعهد "غوغل إيرث" والأقمار الاصطناعية القادرة على نقل "دبة النملة اينما تدب"! لكن النملة تدب ، والأحداث تتواتر ، والتحريض يتزايد ، والكذب يتفاقم ، والحياد يتضاءل والمصريون ينتظرون فجراً جديداً يحمل إما خبراً يقيناً بزوال غمة الفرقة أو تدوينة خبيثة تعمل على تعميق حجم الغمة".